التخطي إلى المحتوى

   الزَّمكانيّة في رواية ” الأيام” للدكتور طه حسين  دراسة د. خلف محمد كمال
طه حسين

يشكّل كلّ من المكان والزمان الروائيين أحد المكونات الأساسيّة  في بناء الرواية فهما يدخلان في علاقات متعدّدة  مع المكونات الحكائيّة للسّرد، كالشَّخصيات والأحداث والرّؤيات السرديّة، ويوصف المكان الروائي عادة بأنَّه مسرح الأحداث والمكان الذي تتحرك فيه الشَّخصيات أو تقيم فيه، فتنشأ بذلك علاقة  متبادلة بين الشخصية والمكان تمنح العمل الروائي خصوصيته، وطابعه، ومن ثمّ يكتسب المكان صفاته ومعناه ودلالته.

ويعدُّ الزَّمن من العناصر الأساسيَّة في النُّصوص الحكائيَّة بشكل عام، فالشخصيات والأحداث لا تتحرك إلا ضمن إطار زمني لا بدّ منه، وإن فقدته الرواية توقفت وجمدت في سكون لا يمكن أن تستمر بعده؛ ذلك أنَّه يحاكي الذاكرة وحضورها في السرد وهو يتجول في أروقة الماضي، وينفتح على اشتراطات الحاضر بما فيه من ثوابت ومتغيرات، ويتنبأ بالمستقبل على وفق متبنيات الماضي والحاضر، وهنا تأتي أهميته بوصفه عنصرًا بنائيًا يؤثر في العناصر الأخرى وينعكس عليها، فهو حقيقة مجردة لا يمكن تلمسها إلا بتذوق ايقاعها واثبات وجودها في باقي أدوات النص الروائي أو القصصي

“إن تقارب الزمن الروائي في التشكيل والرؤية، لا ينفي الاختلاف بين الزمنين،

فالزمن الروائي ليس زمناً واقعياً حقيقياً، إنّما هو زمن تكثيف وقفز وحذف، وتقنيات

يستخدمها الروائي لتجاوز التسلسل المنطقي للزمن الواقعي الموضوعي. إنه زمن

مرن يتحرر فيه الروائي من قيوده، فهو الخالق لزمنه الروائي و المشكل لكل بنية

روائية، لذلك يعالج زمن الحدث الروائي أحياناً، إما بتطويل شديد أو بقفز سريع أو

بتلخيص حسب معطيات النص.

“والرواية القائمة أساسا على المحاكاة لابدّ لها من حدث، وهذا الحدث يتطلب بالضرورة زمانا ومكانا إلا أنّ المكان الروائي هو الذي يستقطب جماع اهتمام الكاتب وذلك لأن تعيين المكان في الرواية هو البؤرة الضرورية التي تدعم الحكي وتنهض به في كل عمل تخيُّلي، ولم يعد الزمن مجرد خيط وهميّ يربط الأحداث بعضها ببعض، ويؤسس لعلاقات الشخصيات ببعضها مع بعض ويظاهر اللغة على أن تتخذ موقعها في إطار الصيرورة ولكنه اغتدى أعظم من ذلك شأنا؛  وأصبح الروائيون الكبار يعنتون أنفسهم أشد الإعنات في اللعب بالزمن

وللزمن أهمية في الحكي فهو يعمق الإحساس بالحدث وبالشخصيات لدى المتلقي

والزمان لا ينكر ولا تنكر آثاره على الحياة والأحياء، والمعروف “أن الأصل في المتواليات الحكائية أنها تأتي وفق تسلسل زمن ي متصاعد بالقصة نحو نهايتها المرسومة في  ذهن الكاتب، والمتواليات الحكائية قد تبتعد كثيرا أو قليلا عن المجرى الخطي للسرد، فهي تعود إلى الوراء لتسترجع أحداثا تكون قد حصلت في الماضي، أو على العكس من ذلك تقفز إلى الأمام لتستشرف ما هو آتٍ أو متوقع من الأحداث، وفي كلتا الحالتين تكون إزاء مفارقة زمنية توقف استرسال الحكي المتنامي، وتفسح المجال أمام نوع من الذهاب والإياب على محور السرد، انطلاقا من النقطة التي وصلتها القصة، فتارة تكون إزاء سرد استذكاري وتارة أخرى تكون إزاء سرد استشرافي

وبما أن زمن الحكاية ذو أبعاد متعددة ، وزمن السرد ذو بعد واحد ، بمعنى أنه مقيد بخطية الكتابة ، لذا فمن غير المعقول أن يقص الراوي الأحداث جميعها ولا سيما المتزامنة منها من دون أن يلجأ إلى تقديم بعضها على الآخر، و من دون أن يختار من تلك الأحداث ما يراه منسجماً مع فنية القصة ، ” وأياً كانت الطريقة التي يستخدمها الروائي ، فإنه إذا وجه إليها كل تفكيره أدرك أنه سيواجه عند كل خطوة ضرورة اللجوء إلى نوع من الانتقاء، فليس ثمة طريقة تتيح له تجنبه ولا أداة لغوية أو بنائية تمكنه من الاستغناء عنه

ومن ناحية أخرى فإن بداية النص السردي لا تعني – دائما- أنها بداية الحكاية، فغالبا ما يلجأ السارد إلى اختيار لحظة زمنية معينة يبتدئ بها نصّه، ومن هذه اللحظة يتحدد حاضر القصة الذي يُعدّ المستوى الأصلي لها

” لا يذكر لهذا اليوم اسما، ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة، بل لا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتا بعينه، وإنّما يقرّب ذلك تقريبا، وأكبر ظنه أنّ ها الوقت كان يقع من ذلك اليوم في فجره أو في عشائه”

هناك مسافة زمنية واضحة بين الزمن القصصي الذي وقعت فيه الأحداث وزمن الراوي الفعلي أي زمن تسجيله لتلك الأحداث، وهناك فرق جوهري بين كتابة قصة تنطلق إلى الأمام كما هي الحال في الرواية بضمير الغائب، وبين كتابة رواية رجوعا من الحاضر إلى الماضي كما هي الحال في الرواية بضمير المتكلم؛ فالأولى تحدث إيهاما بأن الأحداث جارية، بينما يشعر القارئ في الثانية أنّ الأحداث قد جرت، ولذلك يجد قارئ  رواية السيرة الذاتية أنّ من الأصعب عليه أن يغرق ذاته في ذات الراوي؛ فهو يحس أنّ ثمّة شخصا آخر يقف بين(أنا) الرواية و(أنا) القارئ.

غير أن زمن السرد قد يحيد عن هذا المستوى باتجاه الماضي أو المستقبل ممايؤدي إلى ظهور شكلين بارزين هما

  • الاسترجاع
  • الاستباق

و الاسترجاع شكل من أشكال السرد الاستذكاري ويمكن تقسيمه إلى قسمين:

أولا: استرجاع خارجي

يحدد (جينيت)  وظيفة الاسترجاعات الخارجية  بأنَّها: إكمال الحكاية الأولى وتهدف إلى إثراء اللحظة القصصية بكل ما قد يكون سابقًا عليها بما يصنع رؤية رأسية غالبًا ما تبدو سكونية على الرغم من حركتها الظاهرة على مستوى التتابع السردي

” ومن ذاك الوقت تقيّدت حركاته بشئ من الرزانة والإشفاق والحياء لاحدّ له”

ثانيا: استرجاع داخلي وهو استذكار مواقف أو حوادث يعود وقوعها إلى ما بعد بداية الحكاية الرئيسة في العمل الروائي ولا يخرج عن إطارها الزمني وهو أنواع منه ما يكون منفصلا عنها كأن يعرف الراوي شخصية جديدة من خلال استرجاع أحداث من ماضيها وقعت بعد بداية الرواية ولكن لا علاقة لها بالحكاية الرئيسية

وهو الاسترجاع الذي ” يستعيد أحداثًا وقعت ضمن زمن الحكاية أي بعد بدايتها، حيث يعود المؤلف الضمني إلى الأحداث والوقائع إما لسد ثغرات سردية فيها أو لتسليط ضوء على شخصية من الشخصيات أو للتذكير بحدث من الأحداث، وقد يتضمن الاسترجاع الداخلي ما ليس له صلة وثيقة بأحداث الحكاية أي غير المنتمي إليها، وما له صلة وثيقة بها أي المنتمي إليها سعيًا منه في الحالتين لتحقيق غاية فنية في بنية الحكاية

” كان يستيقظ مبكراً أو قل كان يستيقظ في السحر ويقضي شطرا طويلا من الليل…، حتى إذا وصلت إلى سمعه أصوات النساء يعدن إلى بيوتهن وقد ملأن جرارهن من القناة وهن يتغنين” الله يا ليل الله” عرف أن قد بزغ الفجر”

 

” وكم كانت للصبي في ذلك الشارع الضيق وقفات خصبة ممتعة لم ينسها قط حين تقدّمت به الأيام، واختلفت عليه أطوار الحياة”

فالاسترجاع إذن هو العودة إلى الماضي تشكل بالنسبة للسّرد استذكارا يقوم به ماضيه الخاص ويحيلنا من خلاله على أحداث سابقة من النقطة التي وصلتها القصة

” و ما قرأ صاحبنا قول الله عزّ وجل” إنّ أنكر الأصوات لصوت الحمير” إلّا ذكر سيدنا وهو يوقع أبياتا من ” البردة” في طريقه إلى الجامع منطلقا لصلاة الظهر، أو في طريقه إلى البيت منصرفا من الكتاب

” وتلقى السلطان صاحبنا لقاء حسنا، وتحدث إليه فأطال الحديث، ثم قال له:” لقد بلغني نبأ استقالتك من الجامعة، وقد أحسنت بالعدول عنها، فلابد من صبر طويل واحتمال كثير من الجهد، فبين هؤلاء وبين حسن الذوق وقت مازال طويلا، ولكن اذكر ما قلته لك في المرّة الأولى”

” وما أكثر ما كان أحدهم يعود إلى بيته وفي يده ذلك الغلاف المقفل قد أصابه كثير من وضر الزيت والزبد!

“فلما قص الأمر على زوجته هونت عليه الصعب ويسرت عليه العسير وأقنعته بأنه كغيره من الناس يخطئ ويصيب وبأنه أخطأ حين أسرع إلى الاستقالة  والرجوع إلى الصواب خير من الاستمرار في الخطأ”

 

الاستباق أو السرد الاستشرافي

هو تقنية من تقنيات المفارقة السّردية وفيها يقوم الكاتب بالقفز إلى المستقبل وبالتالي التطلع إلى ما هو متوقع أو محتمل الحدوث في العالم المحكي ” إنما يراه الرؤية المتوقعة لما سيحدث في المستقبل، بحيث يتوقع الراوي  وقوع أحداث قبل تحققها في زمن السّرد وتصطدم أمام ترتيب زمني طبيعي وتسمح تقنية الاستباق بربط أحداث القصة ببعضها البعض حتى و إن كانت منفصلة، والاستباق أيضا هو تناول المستقبل في صورة لأخبار القارئ بما سيقع في صورة توقعات أو تخطيط

ويرى (جينيت ) أن الحكاية ب (ضمير المتكلم ) تعد أكثر الطرائق ملاءمة للاستباق بسبب طابعها الاستعادي المصرح به عن الذات، إذ أن الراوي يكون عارفاً بالأحداث جميعها قبل البدء بقصها ، ثم يستطيع الإشارة إلى الوقائع المستقبلية من دون الإخلال بمنطقية العمل القصصي.

ويتم الاستباق أيضاً عن طريق توقع إحدى الشخصيات لما سيحدث، أو تخطيط هذه الشخصية للمستقبل في ضوء أحداث آنية القصة، ويتم الاستباق أيضاً عن طريق توقع إحدى الشخصيات لما سيحدث، أو تخطيط هذه الشخصية للمستقبل في ضوء أحداث آنية القصة

” لم يكن صاحبنا قد أتمّ العقد الثالث من عمره، حين عاد من أوربا وأصبح أستاذا في الجامعة، ولكنه كان يعتقد أن تجاربه الكثيرة التي بلى حلوها ومرها في أثناء إقامته في فرنسا قد تجاوزت به هذه السنّ ونيّفت به على الأربعين”

” وكان الصبي يسمع لهذا الهمس فيفهم حينا ويستغلق الأمر عليه في أكثر الأحايين، حتى إذا مضت الأيام وتبعتها الأيام وشبّ الصبي وأتيح له أن يفهم عن الملغزين وأصحاب الرمز علم ما علم فتغيرت في نفسه قيم كثير من الأشياء وأقدار كثير من الناس

المشهد

ويقصد به  الحوار ويهدف إلى كسر أحادية صوت الراوي وفي هذه الحركة الزمنية نرى أن الراوي يتنازل عن مكانه ليترك الشخصيات تتحاور فيما بينها  فهي اللحظة التي يكاد يتطابق فيها زمن السرد بزمن القصة من حيث

مدة الاستغراق ، فهذه المساواة ما هي إلا عرفية اصطلاحية فالمشهد هو أقرب حركة سردية تستطيع أن تخلق لنا توازنا زمنيا من خلال الحوار، ويفترض أن يكون المشهد خالصا من تدخل السارد ومن دون أي حذف.

فالمشهد في السرد هو اقرب المقاطع الروائية إلى التطابق مع الحوار في القصة

بحيث يصعب علينا دائما أن نصفه بأنه بطيء أو سريع أو متوقف ، كما يعمل على أهداف أخرى مثل إظهار نفسية الشخصيات وحالاتهم الاجتماعية ، فالمشهد يركز على لأحداث بدقة من خلال الحوار المعبر والمفتوح

وتعتبر تقنية من أهم التقنيات التي يلجأ إليها الروائي في السّرد، ويقصد بالمشهد: المقطع الحواري الذي يأتي في كثير من الرّوايات في تضاعيف السّرد، والمشاهد تمثل بشكل عام اللحظة التي يكاد يتطابق فيها زمن السّرد بزمن القصة من حيث مدة الاستغراق، وإن كان الناقد البنيوي” جيرار جينيت” ينبه إلى أنه ينبغي دائما أن لا نغفل أن  الحوار الواقعي الذي يمكن أن يدور بين أشخاص معينين قد يكون بطيئا أو سريعا حسب طبيعة الظروف المحيطة،   فالشخصيات في الرواية تتحاور فيها بينها للتعبير عن رؤيتها وموقفها تجاه الآخرين بعيدا عن وصايا المؤلف وما يضيف عليه الكاتب من أساليب مختلفة والتعدد اللّغوي

المفتش: إنّ ابنك لشديد الحاجة إلى تجويد القرآن

الشيخ: سيجوِّده متى ذهب إلى القاهرة على شيخ من شيوخ الأزهر

المفتش: فأنا أستطيع أن أجوّد له القرآن على قراءة حفص

الشيخ: وهل أنت من حملة القرآن؟

المفتش: ومن المجودين ولولا أنّي مشغول لاستطعت أن أقرئ ابنك القرآن على الروايات جميعا

فإذا انتهى الدرس ذهب الفتى بأستاذه الإيطالي إلى إدارة الأزهر واستأن له على الشيخ الأكبر فتلقاه حفيّا به ثم ينظر إلى الفتى فيسأله في رفق

أأنت الذي كان يجادل في الدرس؟

قال الفتى: نعم

قال الشيخ متضاحكا: ما شاء الله فتح الله عليك وأشقاك بتلامذتك كما يشقي بك أساتذتك!

الوصف

تقنية فنية فاعلة في جسد النص اليقيني تفيده إذا ما وظفت فيه توظيفًا يراعي المستويات اللغوية الأخرى ومتطلباتها، فهي تقنية مساعدة ضمن هذين البعدين

اللغوي والزمني، ومن هنا يؤسس البحث وظائف تقنية الوصف. فالنظم اللغوية في

الرواية الواحدة مختلفة متباينة يجمعها المؤلف ضمن منظومة دلالية تميز الرواية عن باقي الأجناس الأخرى، وهي في داخلها- أي هذه النظم اللغوية- تحتاج إلى نظام خاص في التعامل معها تحليلياً، فلغة الرواية” نظام لغات تثير إحداها الأخرى حوارياً، ولا يجوز وصفها أو تحليلها باعتبارها لغة واحدة ووحيدة. وعلى هذا، فإن الأشكال اللغوية والأسلوبية المختلفة تعود إلى نظم مختلفة في لغة الرواية”

يقول جينيت: إنّ الوصف هو عملية تشخيص للأشياء والشخصيات والمقصود بالتشخيص بثّ الحياة فيها حتى تتردد حاضرة في الأذهان، إنّ الوصف ليضطلع بدور تشييدي يعمل إلى جانب السرد والحوار في  مهمة بناء النص الروائي لتشكيل الفضاء الذي يحتضن الشخصية والحدث”

والتوقف الوصفي يقتضي عادة انقطاع السيرورة الزمنية ويعطل حركتها، ويحيل النص إلى حالة من السكون؛ فعادة ما تقترن الوقفة بالوصف وهي بهذا الاقتران تخرج عن دائرة الزمن

وصف المنزل

فهو يسكن بيتا غريبا يسلك إليه طريقا غريبة أيضا، ينحرف إليها نحو اليمين حتى إذا عاد من الأزهر، فيدخل من باب يُفتح أثناء النهار ويُغلق في الليل وتفتح في وسطه فجوة ضيقة بعد أن تُصلّى العشاء

وها هو الراوي يصف حالة نفسية للصبيّ

“والصبي في هذه المعركة الضاحكة خجل وجل، مضطرب النفس مضطرب حركة اليد، لا يحسن أن يقتطع لقمته ولا يحسن أن يغمسها في الطبق، ولا يحسن أن يبلغ بها فمه، يخيل إلى نفسه أنّ عيون القوم جميعا تلحظه،  وأنّ عين الشيخ خاصة ترمقه في خفية؛ فيزيده هذا اضطرابا وإذا يده ترتعش وإذا المرق يتقاطر على ثوبه، وهو يعرف ذلك ويألم له ولا يحسن أن يتَّقيه”

أمَّا عن المكان

فالمكان يشكل كيانا ذاتيا للإنسان ، فالإنسان موجود في المكان والمكان يحيط

به ، فالملامح الجمالية الحقيقية تتجلى في القصة عبر توظيف القاص للمكان؛”لأنّ اتجاهات الكتابة الروائية – أو القصصية- بما تحمله من تصورات عن العالم تحدد دائما طبيعة التعامل مع التقنيات الروائية ، ومنها تقنية وصف المكان ، فإما أن تتم العناية بالمكان ، وإمّا أن يتضاءل أو يتخذ شكلا جديدا مخالفا للأساليب السابقة في الكتابة الروائية

ويعرف المكان في العمل الفني:” شخصية متماسكة، ومسافة مقاسة بالكلمات ورواية لأمور غائرة في الذات الاجتماعية، ولذا لا يصبح غطاء خارجيا أو شيئا ثانويا، بل هو الوعاء الذي تزداد قيمته ،كلما كان متداخلا بالعمل الفني .”

فالمكان من حيث تشكيله الفني للرواية  نوعان :فهناك مالا تحده الحدود وهو المكان المفتوح، وهناك ما تحده الحدود والقيود فيشكل عائقا للإنسان ونشاطاته وممارساته وهو المكان المغلق، وهذا الانفتاح و الانغلاق نابع من نفسية الساكن للمكان” فمن الناحية الجغرافية ترسم هذه الأماكن مسارا  سرديا مفتوحا، فيها تحتم طبيعتها النفسية نوعان من الانغلاق، فهو إذن انغلاق نفسي وليس جغرافي وكذا الحال مع الأماكن المغلقة، فطبيعة الحياة فيها وارتباط الإنسان بهذه الأماكن أو نفوره منها هي التي توضح طبيعتها…إن سعة المكان وضيقه، انغلاقه وانفتاحه، رهينان بالحالة النفسية أو الشعورية لساكن المكان.

وأكثر النقاد تحدثوا عن المكان المغلق والمفتوح، علما بأنّ المكان المفتوح قد يتحول الى مغلق والعكس حسب نفسية سكانه

المكان المفتوح هو المكان الخارجي الذي لا حدود له، ويشكل فضاء واسعا وكثيرا اما يكون موجودا في الطبيعة مثل الغابات والشوارع والهواء الطلق.

” ويذكر أن قصب هذا السياج كان يمتد عن شماله إلى حيث لا يعلم له نهاية

“وفي الرابع عشر من شهر نوفمبر أبحر الفتى من الإسكندرية ومعه أخوه وطالبان من طلاب البعثة الجامعية”

المكان المغلق

وهو المكان الذي يكتسي طابعا خاصا من خلال تفاعل الشخصية معه، ومن خلال

مقابلته لفضاء أكثر انفتاحا واتساعا، وأيضا هو الذي ينتقل فيه الإنسان ويشكله حسب أفكاره والشكل الهندسي الذي يروقه ويناسب تطور عصره، ويعتبر الفضاء المغلق كنقيض للفضاء المفتوح، وقد تلقى الروائيون هذه الأمكنة وجعلوا منها إطارا  لأحداث قصصهم ومتحرك شخصياتهم.

“وكان صاحبنا يمضي أمامه في هذه الطريق الضيقة وقلّما كانت تستقيم له هذه الطريق، وما أكثر ما كان صاحبه ينحرف به ذات اليمين وذات الشمال”

فالمكان المغلق يمثل الحيز الذي تحده حدود مكانية تعزله عن العالم الخارجي ويكون محيطه محدودا ويكون ضيقا بالنسبة للمكان المفتوح وهي مطلوبة ومحبوبة عند الإنسان لأنها  الملجأ والحماية والأمان الذي يأوي إليه الإنسان عندما يحدق به الخطر أو يتملكه الملل من ضجة الحياة مثل: البيت العائلي أو الغرفة أو المدرسة، وربما يثير القلق والضيق مثل السجن

ومن الممكن اعتبار المكان المفتوح مغلقا  والمكان المغلق مفتوحا بمردوده النفسي لا بطبيعته الجغرافية كما عند طه حسين…………………..

واستقبل الفتى حياته في مدينة” مونبلييه” سعيدا بها إلى أقصى ما تبلغ السعادة، راضيا عنها كأحسن ما يكون الرضا

” فلما أنبئ بأنه سيمتحن بعد ساعة خفق قلبه، وسعى إلى مكان الامتحان في زاوية العميان”

المكان المغلق

” وإنما كان يقضي يومه كله أو أكثره في الأزهر وفيما حوله من المساجد التي كان يختلف فيها إلى بعض الدروس، فإذا عاد إلى الربع لم يدخل الغرفة إلا ليتخفف من عباءته   232

ولكن حياته الخصبة الممتعة منذ أقبل صديقه لم تكن في الغرفة ولا في الربع وإنما كانت في الأزهر نفسه ص232

الخلاصة:

نجح الراوي في استخدام الزمان والمكان الروائيين بأبعادهما من خلال السرد، وذلك بلغة رصينة أو لنقل لغة بسيطة لا تقعر فيها ولا ابتذال، وغلب على أحداث الرواية  استعمال الفعل الماضي؛ لأنه يؤرخ لسيرة ذاتية خاصة به ولم يشر إلى نفسه مباشرة لكنه استخدم ضمير الغائب؛ ربما يبرئ نفسه من بعض الآراء التي يأخذها البعض عليه.

قد يهمك أيضا

دعاء الكروان…بين الرواية والسينما بقلم ابتسام الدمشاوي.

التعليقات

اترك تعليقاً