التخطي إلى المحتوى

دعاء الكروان…بين الرواية والسينما بقلم ابتسام الدمشاوي.
طه-حسين-عميد-الادب-العربي

كتب طه حسين رواية دعاء الكروان في استراحته الكائنة في قرية تونة الجبل التابعة لمركز ملوي …تلك القرية التي تحمل العديد من الآثار الفرعونية والرومانية وأهمها جثمان إيزادورا أول شهيدة للحب في التاريخ…

وفي ظني أن إيزادورا أثرت كثيرا على وجدان الأديب طه حسين أثناء كتابته لدعاء الكروان… فبطلة الرواية شهيدة الحب أيضا ولكن بطريقة طه حسين وفكره ورؤيته للمرأة العربية وخاصة الريفية وما يقع عليها من ظلم وما تعانيه من المجتمع الذكوري خاصة وأن الرواية كتبت عام١٩٣٤ يعنى في وقت الظلام الفكري والاجتماعي تحت ظل الاحتلال الإنجليزي.

أمنة بطلة الرواية التي شهدت أحداث قتل أبيها لسوء أخلاقه والذي أطلقت عليه القرية لقب الزاني بعد أن أهمل زوجه وبناته واندفع وراء ملذاته الشخصية مما جلب له ولعائلته العار مما دفع الزوجة للهروب ببناتها إلى قرية أخرى خوفا على سمعتهن ….

ثم رأت خالها وهو يقتل شقيقتها الكبرى هنادي بسبب وقوعها في براثن المهندس ذلك الشاب المستهتر الذي مثل عليها الحب أو هكذا كانت نظرته للخادمات… بل ونظرة المجتمع كله… (أنهن بلا ثمن) طبعا هذا إلى جانب جهلها وعدم وعيها… أما أمنه فاراد لها المؤلف أن تتعلم من أخطاء سابقيها…

أولا بالعلم والثقافة وقد نالت قسطا من التعلم من ابنة المأمور وأيضا في بيت العائلة التي انتقلت إليها فقرأت الكثير من الكتب والروايات مما شكل وعيها وقوى شخصيتها… وظنت أنها تستطيع أن تنتقم لأختها…

فدخلت اللعبة بوعي وأضافت إلى وعيها وعيا آخر اكتسبته من زنوبة الخبيرة بالتعامل مع الرجال وكيف تطمعهم وتشوقهم دون عطاء منها ورغم حرصها الشديد على الانتقام… إلا أن المؤلف أراد لها بعض الرومانسية والعاطفة التي لا نملك فيها شيء كبشر وأراد المؤلف أن يكون واقعيا إلى أقصى درجة ولكن تأثره بازادورا كما سبق أن ألمحت جعلها تقع في الحب رغم كل حرصها وتسلحها بقوة الانتقام كما وقعت ازادورا في الحب الذي دفعها بأن تلقى بنفسها في النهر حتى تلحق بحبيبها اليائس من موافقة أبيها على زواجهما….

كما وقعت ازادورا وقعت أمنه رغم اختلاف الظروف… الأولى انتحرت مختارة والثانية انتحرت لأنها وقعت بين كفي رحى الحب من ناحية والانتقام من ناحية أخرى.
المنة وصوت الراوي:…

كاد طه حسين أن يكون هو الراوي في هذه الرواية… خاصة أن طريقة رواية آمنة كانت ذات مستوى عال من الفكر لولا أنه أشار إلى أن آمنة تثقفت وتعلمت فجاء أسلوبها في الحمى مطعم بالوان البلاغة.

ولقد دفعنا الكاتب أن نقتنع بأسلوبها وهي تروي مأساتها أو سيرة حياتها بلغة راقية، وإن توقفنا لحظات أمام بعض الجمل البليغة جدا “أي حياة يموت فيها العقل أو يأخذه شيء كالموت” ص121، وفي وصفها لزواج المهندس بأنه خيانة منظمة “هو الآن ينظم الخيانة تنظيما” ص104، وفي موقع آخر وهي تصف تعامله معها.

“هذا الفتى يعرف حقا كيف يكون شراء الرقيق” ص139، تلك الجمل وغيرها تحمل بين طياتها معاني لا تصدر إلا عن وعي لا تمتلكه بالتأكيد فتاة بسيطة كآمنة، وإن عانت في حياتها الكثير، أو اطلعت وقرأت العديد من الروايات والكتب،، كنتيجة طبيعية للغة المستخدمة آنذاك والتي تتميز بالبلاغة.

ورغم أن الكاتب لم يستغن عن لغته الغنية المنمقة، إلا أنه استطاع بشكل أو بآخر التغلب على صوته الذي تلاشى بين كلمات بدت كأنها نتاج مأساة حقيقة كتبتها (آمنه) لا غيرها… عزز من تلك الملامح التي أسبغها (طه حسين) على الشخصية مما ساهم في إضفاء هذا الإحساس على المتلقي في معظم صفحات الرواية، فآمنة قارئة مثقفة تلقت كمْ من المعارف والخبرات.

… ورغم أن روايتنا هذه حاكت بشكل أو بآخر أسلوب السيرة الذاتية إلا أنها لم تسجل تلك التطلعات البدائية في التعاطي مع شخصية نسائية عاملة، بل تعاطت الرواية مع سيرة مجتمع كامل بشخوصه المقموعة والقامعة…

كل يغزل الآخر بطابع واقعي تخللته بعض الرومانسية. وقد تفوق الكاتب على ذاته الواعية والمثقفة حين استغنى عن نظرته الراقية للمرأة واستعارتين من ترى المرأة بصورة مخجلة، ساعده في ذلك أنه عاش في يوم من الأيام ضمن هذه المنظومة الريفية، فتداعت له الصور وهو يكتب عن نسوة ظلمن في زمن الرجل… ولم يغفل المؤلف الشخصيات المكملة لروايته والتي لعبت دورا مهما في حياة بطلته الأساسية… مثل ابنة المأمور وزنوبة…

والخال والمهندس الذي أظن أنه لم يهتم بوضع أسماء لهما لأنهما يمثلان الحدث ذاته والفكرة المتسلطة على المجتمع كله…… إن تنوع الشخصيات أمر مهم جدا بالنسبة للقارئ الذي يجد متعة في تعاطيه مع مجتمع كامل بكل معطياته، ورغم أن هذا التنوع لم يتحقق بشكل ثري في هذه الرواية إلا أنه ترك لمسة غنية خاصة حين نتنقل من منزل المأمور بطبيعته الراقية للبيت الذي اتخذته آمنه بديلا عن منزل المأمور، حيث نجد التباين في المستويين الاجتماعي والاقتصادي وبذلك تكون الحياة الواقعية – حينها – قد تحققت بجوانبها السيئة والجيدة.

أنهى الأديب روايته بتصوير حالة العذاب التي شملت العاشقين… المهندس القاتل والمقتول… وآمنة العاشقة والمنتقمة… جعلهما المؤلف يعيشان نفس الألم ونفس العذاب… رغم اختلاف البدايات…. وارى أن طه حسين أنهى روايته بهذا الشكل انتصارا للحب الذي اتخذه المهندس وسيلة للمتعة واتخذته أمنه وسيلة للانتقام… فلقد أوقعهما المؤلف في الحب رغما عن إرادتهما وجمعهما بعذابه بدلا من متعته.
بين الرواية والفيلم الذي أخرجه بركات وكتب السيناريو يوسف جوهر… لم يكن هناك فروقا جوهرية في الأحداث إلا أن المخرج اختصر بعض الأحداث الجانبية توفيرا للوقت ولكنه اختار اختصارا آخر مهما وهو الجزء المتعلق بتعليم آمنة وثقافتها ولغتها الراقية في الحمى فحولها إلى شخصية ريفية بسيطة تتحدث لهجة أهل الريف المختلطة أحيانا بلغة البدو… وهو اختيار مبرر بالفارق بين شخصية القاري الواعي للرواية وشخصية المتلقي أو المشاهد للسينما الذي يحب أن تكون الأحداث بسيطة مبهجة…
وفي العموم سواء قرأنا الرواية أو شاهدنا الفيلم فقد كنا بصدد عمل أدبي واقعي رومنتيكى، كعادة أديبنا الراقي الواعي المثقف المفكر الكبير د.طه حسين ابن المنيا.

التعليقات

اترك تعليقاً