التخطي إلى المحتوى

مسعود شومان يكتب: استعادة الجذور الشعبية وجدل التراثي والحداثي فى ديوان من شعر العامية المغربى للشاعر محمد موتنا السباعى
مسعود شومان
ينطلق الشاعر والباحث المغربى محمد موتنا السباعى، في ديوانه ” ٱلقَلْبْ وْ ما يْريدْ “، مسلحا برصيد عميق من الثقافة، فشعره لا ينتمي لعوالم الزجل المباشرة، إن أشعاره المتمردة على أعراف الزجل بقوانينه الملتزمة بوحدة البحر تمتح من مصادر تراوح بين التراثي والحداثى، فهو لا يعتمد فى استدعائه لعناصر المأثور الشعبى على المركون فى جب التراث، لكنه يستلهم الحياتي والآني، ليعيد الاعتبار للمهمش و المنسي، و هو حين يتناصُّ مع عدد من العناصر فإنه لا يستدعيها مؤمنا بها ومنضويا فى منظومة قيمها، لكنه يتجادل معها، مزيحا بعض تراكيبها، ومضيفا من ذاته ما يتساوق مع تجربته الشعرية الثرية التى تلقي بالقارئ فى مسارات متعددة، لعل منها: المسار الشعبي، وهو ما يعكسه استلهاماته لعناصر المأثور خاصة فنون ڭناوة(1)، ولن يعدم القارئ العثور على مفردات: الحضرة – الجاوي – الجدبه – الباشا حمو – جناوى- لملوك – القرقابة – الڭنبرى(2)، وتكاد القصيدة الأولى: “لَحْوالْ ٱلّلي بِيَ” أن تكون جماعا لعدد من الظواهر الفنية الشعبية المغربية التى تحتاج إلى درس عميق ، ولا يقتصر الأمر على ڭناوه، لكننا نجد إشارات للحمدوشية وعيساوة و جيلاله و هداوه(3)، إلا أنه يبدو فى شعره كالمتبتل الذائب فى نصوصهم وموسيقاهم وطقوسهم دون أن يكون واحدا منهم، فهو المنتمي المتمرد، فقد “تَحَمْدشَ”، لكنه ليس حمدوشيا، وتمظهرت أشعاره بكلماتهم لكنه دوما ما يخلو لذاته متفردا بنصه، وهكذا تدلنا النثارات على مدى وعيه بانحيازاته : “حَضْرَه وْ بْلا جاوِي”– “تْحَمْدَشْتْ وْما أنا حَمْدوشي”، وكذلك : “وْ جْدَبْ ٱلباشا حَمُّو مْعايَ.. نازَلْ عْلى ٱلْكَسْدَه بْ جْناوِي .. وْ ما ناشِي عِيساوِي .. وْ ما ناشِي جِيلالِي.. واخَّ ٱلْبَنْدِيرْ فْ ٱلْيَدْ خْفافْ .. يْطُوعْنِي وْ نْباتْ نْتَلَّتْ..مادا مْعايَ عَ لَّمْلُوكْ طافْ..حَتّى تْحَرَّفْتْ ٱلْقَرْقابَه.. فْ مِيمُونْ لَڭْناوِي.. و ما ناشْ ڭْناوِي”
إنه الشاعر المدرك لمكانه، العارف بتفاصيله وتفاصيل ناسه، حيث يقلب على معناه ومبناه من خلال الغوص فى تراثهم لذى يغرق فيه ليعود بصيده الشعرى الثمين :
– شاعِرْ أنا مَنْ هْنا
مْخَلّْطَه فِيهْ ٱلدّْعاوِي
يْقَلَّبْ فْ ناسُه عْلى مَعْنى
وْ يَكْرَهْ ٱلَّلغْطْ ٱلْخاوِي
لِيَ فْ ٱلرُّوحْ رْبابْ
عْلى لَبْلادْ مْساوِي
جَدْبانْ بْلا مْلوكْ
أنا عْلى ٱلضَّوْ نْقَلَّبْ
مَزْرُوبْ وْ مَدْروكْ
نَكْرَهْ ٱلظَّلْمَه حَتّى صَرْتْ مَمْلُوكْ
ٱسْبابِي ٱلْحَرْفْ ٱلضّاوِي .
إن لغة محمد موتنا السباعى لا تركن إلى النمذجة ولا تجري وراء السائد لكنها تقيم حوارا بين الذات والعالم، عبر التشاكل الصوتي الذى يتمثل فى التفعيلة كوحدة موسيقية يتجاوزها أحيانا لينتقل منها نقلات ناعمة كانتقالات المقامات الموسيقية دون أن يجرح انسيابيتها، فضلا عن الموسيقى الداخلية، وموسيقى الجملة الشعرية التى يؤطرها أحيانا بقوافيه التى تمثل رابطا بنائيا بين الأسطر ولا تأتي كحلية أو تتمة لنهاية السطور، وحوارات قصائده التي تصنع التنوع بين الشعبى والتشكيلى والصوفى والذاتى، وجميعها تمثل ضفيرة لا يمكن فصل بنياتها المتماسكة، حيث ينقل القارئ من التصوير المفارق إلى المباشرة التى تصل هدفها كرصاصة، ومن السرد الخافت إلى دندنات الصوت كأنها قرع طبول مشتبكة فى فضاء الحياة الشعبية التى عاشها كشاعر وباحث متوقد بالتفاصيل، فمن العام للخاص يدلف بنعومة متحدثا عن ذاته فى قصيدة “الْعَنْوانْ” بلا مواربة فيذكر تفاصيله التى لا تخفى على أحد، إنه العاشق الذى لا يكف عن منح زكاة العشق؟، وهو حين يخرج هذه الزكاة فمن روحه وبدنه، وقد قدم الروح على البدن لأن الروح من الدوال المشعة فى شعره، والاستشهادات متعددة تبوح بما فيها بكثافة الشاعر العارف، وقطرة من دم قصائده تكفي :
– لْقيتْ ٱفْراخْها تَكْبَرْ .. فْ ساحَةْ الرُّوحْ تْجَرّي .. ( من قصيدة بْلا ما نَدْري )
ويتعالق بدال الروح دال العشق الذى يدلنا على توجهات الشاعر و وجهته ، حيث العشق و وجوهه ومساربه التى يصيدها من شقوق الجروح التى تشير إلى ذوات أضناها الوجد، فذابت حين عرفت، وحين وصلت كان الشعر وسلماته العصية التى تضمر المشاعر فى تفاصيلها :
– عَشْقْ يَكْبَرْ وْ يَصْعابْ
حَتّى صارْ شَدَّه وْ عْدابْ ( من قصيدة لَحْوالْ ٱلّلي بِيَ )
– ثابَتْ فْ عَشْقِي وْ ٱلْعَشْقْ لِيهْ زَكاةْ
عْشُورْ مْخَرّْجُه أَنا مَنْ رُوحِي وْ بْدانِي
ثابَتْ فْ عَشْقِي
هاكْداكْ ٱلْعَشْقْ فِيَّ خْلُوقْ
هاكْداكْ لَمْحَبَّه فْ دِينِي وْ ٱيْمانِي ( من قصيدة ٱلْعَنْوانْ )
فالعشق هنا ليس مجردا من معارج المتصوفة، وإلهامات حروفهم، وكأنه يتناص مع تاريخ من سطور المتصوفة من الشعراء لينضم إلى كتائب العشاق الشعراء:
– لِيكْ هادْ ٱلْحُبّْ كُلُّه
لِيكْ هادْ ٱلْعَشْقْ ٱكْتَرْ..
ساعْةْ يَتْهَنَّى داكْ ٱلْحالْ
وْ ٱلْفَرْحَه تَطْلَعْ مُوّالْ
ساعْةْ يَتْغَمَّمْ داكْ ٱلْحالْ
وْ ٱلْقَلْبْ بَعْدْ صْفاهْ يَتْكَدَّرْ .. ( من قصيدة ٱلْحُبّْ كُلُّه )
إنه المدفوع للعشق المقترن بالجرح والحمق، وعشقه ليس عشقا نرجسيا لذات مريضة تعلي من قيمة الأنا على الجموع لكنه ذلك العشق للأرض والناس بما يملكون من أحلام وآلام لا تكف عن ضخ الشعر فى عروق القصيدة :
– كانْ عَشْقِي ٱحْمَقْ ( من قصيدة ٱلْفَرْقْ )
– ٱنْتُوما يا ٱحْبابِي بَلْسَمْ ٱلْجَرْحْ
تَتْساهْلُو ٱلْعَشْق يا ناسِي
مَنْكُمْ بَزّافْ ما لِيَاشْ
هُو لاشْ لاشْ .. ( من قصيدة نْحَيْلاتْ ٱلفَرْحْ )
– علاشْ ٱلْغَلّْ بْلا سَبَّه يْحَرَّزْ طْرِيقْ لَمْحَبَّه
وْ ٱلْخُبْتْ يْوَلِّي فِينا سَيَّدْ
وْ ٱلْعَشْقْ يْوَلِّي عَلَّه ..
نْسالْ فيها قَلْبْ عامَرْ دْفا .. ( من قصيدة حَقِّي )
ويتعالق دال العشق بالقلب بوصفه مضخة للمشاعر والتشكيل الجمالي الذي يصيد الشاعر من خلاله تفاصيل حياته ومسالكه وتوجهاته، فالشاعر محمد موتنا السباعى ليس شاعرا لهجيا يركن للسطحي المباشر، لكن شعره يؤكد على طاقات ثقافية مثلما تنهل من ثقافته الادبي الجامعية فهي تستثمر التراث والمأثور الشعبى ، ويضمر نصه مفاتيح لقراءات العادات والتقاليد والتصورات التى تمثل فصيلة الدم التاريخية للأرض المغربية بما تحمل من تنوع ثقافى يشير إلى كون الشاعر يملك ثقافة رفيعة، إضافة إلى كونه باحثا ميدانيا وعازفا على عدد من الآلات الشعبية مثل الڭنبرى والقرقابة والطبل ..، فضلا عن قدرته على صناعة بعض هذه الآلات، فالقلب هنا يتسع ليصبح دالا يجمع تفاصيل الذات الخاصة والعامة في آن واحد:
– لِيكْ هادْ ٱلْعَشْقْ ٱكْتَرْ..
ساعْةْ يَتْهَنَّى داكْ ٱلْحالْ
وْ ٱلْفَرْحَه تَطْلَعْ مُوّالْ
ساعْةْ يَتْغَمَّمْ داكْ ٱلْحالْ
وْ ٱلْقَلْبْ بَعْدْ صْفاهْ يَتْكَدَّرْ
ساعْةْ ٱلرّْبِيعْ يَضْحَكْ فِيكْ ( من قصيدة ٱلْحُبّْ كُلُّه )
– يا خَيِّي آشْ بانْ لِيكْ
حَتَّى خَلِّيتِ صُوْرةْ ٱلْكَسْدَه
لْ ٱلْعاشْقِينْ فْ عْدابْ ٱلكَسْدَه
وْ تْحَرَّفْتِ ٱلْقَلْبْ وْ ٱلرُّوحْ جَنْحِينْ
و حَدْهُمْ كانُو لِيكْ يا صْحَيْبِي عَدَّه ( من قصيدة خَمْرَةْ ٱلْحَلَّاجْ )
– بيكُمْ ٱلنّْشِيدْ يَحْلى
وْ بِيكُمْ يَنْسابْ ٱلزّينْ ف ٱلتَّغْرِيدْ
بِيكُمْ هادْ لَمْرارَه عَسْلَه
مْقَطّْرَه فْ شَهْدْ وافِي
خْوابِي ٱلْقَلْبْ بِيها تَمْلا
وْ بِيكُمْ لَحْزانْ نْشُوفْها تْوَلِّي عِيدْ
بِيكُمْ ٱلْقَلْبْ يَسْلى بَعْدْ ٱلتَّنْكِيدْ ..( من قصيدة نْحَيْلاتْ ٱلفَرْحْ )
إن الدال المركزي في الديوان هو القلب بحواشيه ودمه، بشعره وحكاياته، بتفاصيل الحواري الشعبية، والمأثورات التي كانت حبيسة الصدور، من هنا يأتى العنوان ليكون مفتاحا مهما لقراءة قصائد الديوان، بداية من القلب ومتعلقاته، تفاصيله، ودقاته التى تمثل عتبات القول، فللقلب جهات يرسم خرائطها بالحروف، وتتقطر شعرا في المفارقات التى يصنعها بحرفية
– لْ لْقَلْبْ جِهاتُه
وَ لا جِهَه هِيَ تْسامَحْ
يْباتْ فْ رْحَى يَتْجادَبْ
ما بِينْ ٱلْجِهاتْ..
يْباتْ يْجارِي
يْباتْ يْدارِي
يْباتْ يْصالَحْ
يَدِّيها طَرْحاتْ هُوَ ..
وْ يْجِيبْها طَرْحاتْ ..
يْباتْ يْوازَنْ
يْظَلّْ غادِي
وْ يْباتْ رايَحْ ..
وْ ما ٱعْتاها هي رْياحْ ٱلْجِهاتْ ..
يْصِيرْ ٱلْقَلْبْ مْسِيَّحْ
يَبْغِي يَسْتَراحْ ساعَه
وْ ما يَلْقاها
وْ يْلا كَتَّبْ لِيهْ ٱلَّلهْ يا عُمْرِي وْ لْقاها
ما يَلْقَى جِهَه
عْلَى جَنْبْ ٱلرَّاحَه مَنْ جِهَتْها يْباتْ. (قصيدة جِهاتْ ٱلْقَلْبْ .. )
إن للقلب قانونه الخاص الذي ليس له علاقة بقوانين الدنيا وهو القانون الضابط على فيض دقاته قانون الشعر، فالقلب وما يريد، و الشعر الحقيقى يعرف المريد، ويطرح الأسئلة ولا يملك الإجابات، حيث تكمن مشروعية الشعر فى قدرته على طرح السؤال و هو ما تؤكده أغلب قصائد الديوان و منها قصيدته (بِيني وْ بِينَكْ) الطويلة المكونة من أربع عشرة قصيدة فرعية، هكذا يحاول شاعرنا القدير محمد موتنا السباعى فى كل قصيدة أن يصيد الشعر من الناس ليقول لنا بصوته و لغته الخاصين ” ٱلْقَلْبْ وْ ما يْرِيدْ”.
• الحواشى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فنون ڭناوة : تعد ڭناوة ذات الجذور الإفريقية ظاهرة فنية روحية نشأت فى المملكة المغربية حيث تنتشر هناك بشكل واسع ( ينطق الحرف الأول من كلمة “ڭناوة” جيما قاهرية)، وهى ظاهرة تتعالق بها مجموعة من العادات والتقاليد والفنون القولية والموسيقية، فضلا عن بعض الآلات الموسيقية، إضافة إلى المعتقدات المتعلقة باستحضار “لملوك”، أي الجن المتلبس لرواد الليلة الڭناوية، وتنقسم من حيث منجزها الموسيقي لثلاثة أقسام هى: العادة – الفراجة أو أولاد بامبرا – لملوك.
(2) الڭنبرى -الحضرة – الجاوي – جدب – الباشا حمو – جناوى- الملوك – القرقابة –: من مفردات وأدوات الليلة الڭناوية، فالحضرة هى الفضاء والفعل الممارس فى الليلة- الجاوي، نوع من البخور المستخدم أثناء استحضار الجن، أما الباشا حمو فهو نوع من الملوك/ الجن السبعة مرتبط باللون الأحمر، مثله مثل ميمون المرتبط باللون الاسود الذي يعد من هؤلاء لملوك .أما القرقابة وجمعها قراقب فهي آلة إيقاعية من المصوتات، مصنوعة من الحديد، تصاحب الغناء والعزف فى الليلة الڭناوية، أما آلة الڭنبري فهي الآلة الرئيسة عند ڭناوة ، وهي آلة تقليدية وترية تصنع في المغرب يُعْزَفُ عليها من خلال السبابة و الإبهام دون وسيط، ولها عدة أنواع تختلف من حيث الحجم و الشكل و نوع الخشب .
(3) حْمادشه هي أيضا من الطرق الصوفية الشعبية المغربية التي أنتجت موسيقى مثلها مثل كناوه وجِيلاله و عِيساوه و هَدّاوه.

التعليقات

اترك تعليقاً