البيضة.. بقلم الكاتب الكبير: مصطفي نصر

إستغل الأخوان – محمد ومحمود – أزمة الحرب العالمية الثانية – حيث إرتفع سعر المازوت بشكل ملحوظ، وإعتمدت المخابز ومقالي اللب والسوداني على مخلفات ورش الخشب في إشعال أفرانهم، فإرتفع سعر مخلفات ورش الخشب وإغتنى الأخوان، فإشتريا بيوتا كثيرة في أحياء الإسكندرية المتعددة، بيت في كوم الشقافة وآخر في كوم الدكة، وعدة بيوت في سوق عقداية ومنطقة راغب باشا، وبيتا كبيرا في حي غربال، غير بيتهما الذي يسكنانه في منطقة الباب الجديد.تزوج محمود – الأخ الكبير – من زوجة طيبة، وسكن محمد في الشقة العليا وحده. فالعمل في ورش الخشب الكثيرة، التي يحصلان على مخلفاتها، والبيوت الكثيرة التي يشتريانها من وقت لآخر؛ شغلوهما عن الزواج. فالنقود مودعة لدى محمد، فهو يجيد القراءة والكتابة، يضع نوتة كبيرة فوق صدره، يخرجها من وقت لآخر يدون بها كل شيء، وكلما تجمع مبلغ – يمكنهما من شراء بيتا – يرسلان للسمسار – الذي تعود على العمل معهما، بل كان يذهب إليهما في بيتهما أو ورش الخشب التي يعملان بها، ويعرض عليهما بيتا يريد أصحابه بيعه.يسير الثلاثة – محمد ومحمود والسمسار- بزيه الموحد – المعطف الذي يرتديه في كل وقت، حتى وقت الحر الشديد، والطربوش – يقول السمسار لهما: البيت هذه المرة في حي بحري، لم تشتريا من قبل بيتا في حي بحري.
يقول محمود: لا.
ويقول محمد: ليس مهما، المهم أن يكون مناسباً.
ويكمل محمود: وألا تكون فيه مشاكل، فنحن أبعد ما نكون عن المشاكل.
فيقول السمسار: تتعاملان معي منذ سنوات، وتعرفان طريقة عملي.
ركبوا ترام 4 في محطة سيدي أبي الدرداء، القريبة من ورشة الخشب التي يعملان بها. ونزلوا من الترام قريبا من حلقة السمك.
أحس محمد بالراحة، فالهواء منعش، والبحر، وميدان المساجد الذي مرت الترام من أمامه. قال السمسار: إتفقت مع صاحب البيت على أن ينتظرنا في القهوة المواجهة لنقطة شرطة الأنفوشي.
قال محمود: ولماذا لا ينتظرنا في البيت؟ قال السمسار: إنه يسكن في بيت آخر، فهو – مثلكما – لديه بيوت كثيرة.
كان صاحب البيت مكفهر الوجه، يتحرك في عصبية، أحس الأخوان إنه يريد أن يتخلص من هذا البيت في أسرع وقت ممكن. فهو يوافق على أي شروط يعرضانها عليه، مما أقلق الأخوان.
دخلوا شارع السيالة، السمسار معروف لدى البعض، فيرفع يديه محييا كلما مر على قهوة. وقفوا أمام بيت قديم مكون من أربعة طوابق ٍ قال صاحب البيت للأخوبن: بيت قديم، لكنه قوي كالحديد.
فُتحت نافذة الدور الأرضي، وأطلت منها إمرأة عملاقة، وجهها طويل وعريض، وفمها شديد الإتساع، وشعرها العاري مصبوغ باللون الأصفر، نظرت لصاحب البيت وصاحت في غضب: مصمم على بيع البيت يا معلم حامد؟!
قال بصوت خافت، لكن المرأة سمعته: بيتي وأنا حر فيه.
نظرت إبنتها وهي قريبة الشبه منها، زاحمتها في النظر من النافذة الضيقة عليهما، قالت: يبيعه، إللي أخذته القرعة، تأخذه …….
لم تكمل المثل، توقف لسانها وهي تتابع الرجلين اللذين يقفان مع السمسار الذي أمسك يد صاحب البيت لكي لا يرد، حتى يمر الوقت بخير وتتم البيعة. قال محمود لأخيه: بلاها البيعة دي، ده بيت كله مشاكل.
كان محمد يتابع ما يحدث في النافذة بإهتمام شديد، قالت المرأة لإبنتها – مشيرة لمحمد -:ماله، بيبص علينا كده؟!
لم تجبها البنت وإكتفت بتفحص الشاب بإهتمام، ثم مصمصت شفتيها عجبا.
قالت المرأة: إذهبي لأبيك، أستدعيه حالا.
أرتدت الفتاة ملاءتها السوداء وخرجت من باب البيت وهي تتابع الشاب الذي لم يبعد عينيه عنها، ذهبت لأبيها – العامل في الحمام الشعبي المواجه لمستشفى النقراشي – كان الرجل يشمر بنطلونه لمنتصف ساقه، ويحمل دلوا مملوءًا بالماء الساخن، قالت: صاحب البيت جاء بمشترين جدد للبيت.
ترك الرجل الدلو وإستأذن من صاحب الحمام الذي قال: بيته – يا خميس – وهو حر فيه.
قال خميس: لكن بالأصول يا حاج.
خميس زوج إنشراح – الطويلة العريضة، والتي يحسب الحي كله لها ألف حساب، إذا غضبت على زوجها خميس لا تتورع من أن ترميه بأقرب شيء إليها، ضربته في آخر مرة برأسها القوية أمام مدخل الشارع وقريبا من القهوة، وسبته بأمه وأبيه، ولم تمتد يده إليها، كل ما فعله أن نظر للكثيرين الذين إلتفوا حولهما، وقال: خليكوا شاهدين يا جماعة.
خميس ذو رقبة عريضة تشبه رقبة البقرة، فأطلقوا عليه إسم خميس بقرة. هو لا يحب هذا الإسم، لكنه قنع به بعد أن وجد الكل يناديه به.
أحيانا تكون له مصلحة، يسألون عن خميس بقرة ليعطوه مالا، إحسانا أو لحما يوزعه أغنياء الحي. تجد ورقة اللحم مكتوبا عليها بخط كبير خميس بقرة أو يرسل تجار السمك الكبار – في حلقة السمك – كمية سمك له، أيرفض هذا لأنه لا يحب هذا الإسم؟!
سار خميس وإبنته البيضة معه، قال: فوتي في الأول على أختك نبوية وزوجها حسني.
يذهب إلى البيت، بينما تذهب البيضة لبيت أختها نبوية القريب. زوجها حسني يبيع الكفتة على عربة متاخمة لمستشفى الأوقاف هناك، قالت البيضة محرضة أختها: صاحب البيت جاء بمشترين جدد.
ضحكت نبوية: ضاق الرجل بك وبأمك ويريد بيعه ولو بالخسارة.
فوجئت البيضة بحديثها: ألن تأتي معنا؟!
ضحكت أكثر: وهل يقدر أحد على منعه؟!
قالت البيضة في هدوء: نعلم إنه بيته وهو حر فيه، لكننا في كل مرة نثير المشاكل، فيبتعد المشترون اتقاءًا للشر.
قالت: عندك حق، من سيشتري بيتا فيه كل هذه المشاكل؟!
سارت نبوية مع أختها، واجهتهما عربة زوجها، كان يضغط بأصابعه على اللحم فوق الأسياخ الحديد قبل أن يضعها على النار.
حسني طويل ونحيف، شديد الشبه بأصبع الكفتة الذي يصنعه، فأطلقوا عليه إسم “حسني كفتة.
قالت نبوية: صاحب البيت جاء بمشترين جدد.
ضحك قائلا: لن يتمكن من بيعه طالما أمك تقف له بالمرصاد.
كان خميس يقف ببنطلونه المشمر والمبتل، يتحدث مع الأخوين، قال: البيت خايخ، وآيل للسقوط.
فثار حامد وأقسم أن بيته سيبقى قائما في مكانه، وسيعيش أطول مما عاشت الأهرام وأبو الهول.
وأكد السمسار على قوله، ومحمود يقول لأخيه: دعنا من هذه البيعة.
ومحمد يبتسم كأنه يشاهد فيلما أعجبه، قال لصاحب البيت: سأشتري، لكن خفض الثمن قليلا.
فوجئ صاحب البيت بقوله، فأيقن هو والسمسار أن لا يمكن لمشتر أن يقامر بشراء بيت به سكان بهذه الشراسة.
قال السمسار سعيدا: لن نختلف.
فوجئ خميس بقرة وزوجته وإبنتاها بما يحدث، فقال: أتشتري بيتا كله مشاكل؟!
قال محمد مبتسما: بل سأشتريه من أجل سكانه.
كلماته المفاجئة جعلت إنشراح تشرد ولا تجد ما تقوله، فنظرت لإبنتها لتعرف ما الذي سيحدث.
قالت نبوية لأمها: رجل حصيف، يريد الصيد في الماء العكر، بيت فيه مشاكل، فسيبيعه صاحبه بأقل ثمن.
بينما شردت البيضة في هذا الشاب الوسيم والذي يرتدي ملابس الصعايدة. تريد إنشراح أن تقف إبنتاها معها لمنع هذه البيعة، ليظل البيت كما هو.
إنسحب الرجال الأربعة، جلسوا على القهوة المواجهة لنقطة البوليس، ليكملوا إجراءات البيع.
قال السمسار: لا تخشى من إنشراح وبنتيها، محضر في نقطة البوليس، ينهي كل شيء.
قال محمد: الأمر إنتهى، إنهن يحاولن منع البيعة ليظل الوضع كما هو. وأنا بموافقتي على البيع، أفسدت مخططهن.
تمت الصفقة وعاد محمد حاملا أوراق البيع.
قال محمود لأخيه وهما في الطريق: ياه، إمرأة شرسة وإبنتها كذلك.
قال محمد وكأنه يحلم: إبنتها الصغيرة جميلة و…..
صاح أخوه الأكبر: ماذا بك، أعجبتك البنت الشرسة؟
قال محمد وقد أشاح بيده: لا، لا، مجرد رأي.
قال محمود لأخيه: قلت لك إن فريدة أخت زوجتي هي المناسبة لك.
قال محمد: لا أفكر في الزواج الآن.تأتي زوجة متولي الكونترجي إلى البيت كثيرا، هي في الحقيقة تطوف بيوت أهل بحري بحقيبتها الجلدية السوداء، لتزويق النساء وجلي شعر وجوههن وأجسادهن.
تضربها إنشراح عل صدرها قائلة: كيف حالك يا سميرة، زوجك مازال يزور مستشفى الأوقاف؟
تتنهد في أسى: زهقت يا إنشراح، الرجل لا يموت ولا يحيا.
سألتها: وأخبار الولد حسن إبن فردوس إيه؟
تجيب في ضيق: كما هو في الدكان.
– واضح إن أداءه معكِ لم يعد مرضيا.
تهرب سميرة من هذه السيرة فتشير للبيضة: هيا إلى أن تأتي أختك نبوية من بيتها.
تقوم البيضة، تدخلان الحجرة الصغيرة التي تنام البيضة فيها، تفتح حقيبتها وتخرج أدوات عملها: مالك يا بيضة، أنت شاردة طوال الوقت، وحزينة.
قالت البيضة: لا شيء.
تربت وجهها الممتلئ كوجه أمها: مالك يا بنت، إنك تشبهين القمر.
تنهدت البنت في أسى وحزن: وما فائدة هذا؟!
صاحت سميرة: بنت، أنا مُدرسة في مدرسة الشيخ علي أبو عكاز.
– أعرف.
– يعني متعلمة، وأعرف من فنون العشق الكثير.
– إن لم تعرف سميرة العشق، فمن ستعرفه؟!
– لذا، أؤكد بإنك تحبين.
– وما فائدة القول؟!
– قولي لي عن إسمه، وسأجعله يأتي طالبا يدك.
وقفت البيضة فرحة: حقا يا سميرة؟!
– من هو؟
– الشاب الذي جاء لشراء البيت.
– سمعت عنه، هل هو متزوج؟
– لا، أخوه الأكبر متزوج، وهو أعزب لم يزل.
– لو جئت به ليخطبك، ماذا ستعطيني؟
قبلتها البيضة فرحة: عطيتي لك، ستكون أكبر مما تتوقعين.
عندما تأتي سميرة، تقضي اليوم كله في البيت، تزوق البيضة، وتأتي نبوية من بيتها لذلك، ثم إنشراح، وبعد ذلك تصعد للدور الثالث لتزوق أم سليمان، كل هذا في يوم واحد. بعد أن إنتهت من تزويق نبوية، قالت: وأنتِ يا إنشراح؟
مطت إنشراح شفتيها آسفة: لمن أتزوق يا عزيزتي، الرجل …. – وصنعت بشفتيها صوتا يعني إن لا فائدة منه -.
قالت سميرة: ربما هذا لعدم إهتمامك بنفسك.
– لا، فعلت المستحيل، وهو كالبقرة، صدق من سماه “بقرة “.
لمت سميرة عدتها وأمسكت حقيبتها ووقفت قائلة: يعني أذهب لجارتكم أم سليمان؟
تضحك إنشراح وقد شدت سميرة حتى أوقعتها بجانبها فوق الكنبة: أم سليمان أرملة الآن، فلمن تتزوق؟!
قالت سميرة بحدة: لنفسها يا حبيبتي، لنفسها. لا بد أن تبدو المرأة جميلة في كل وقت. خرجت سميرة من مدرسة الشيخ علي أبو عكاز، المفروض أن تمر على دكان زوجها لتقابل الولد حسن – ياه، إنها لا تطيق سيرته – تحاسبه وتحصل منه دخل الدكان. ثم تذهب إلى مستشفى الأوقاف لمقابلة زوجها، لكن البرنامج كله تغير. فقد ركبت ترام 4 ونزلت في محطة سيدي أبي الدرداء، سألت عن ورشة خشب الباركيه المشهورة هناك، كان محمود وأخوه محمد يجلسان على الرصيف في إنتظار توقف المكن، ليبدأ عمالهما في جمع النشارة والخشب الكسر، ووضعها في عربات يجرها عمالهما للأفران ومقالي اللب والسوداني، والنشارة الناعمة توضع في أجولة وتباع لأصحاب المحلات والمقاهي. إقتربت سميرة منهما: المعلم محمد بخيت. وقفا مشدوهين، إنها تمسك أوراق في يدها، وتلبس نظارة مقعرة، يعني تشبه موظفي الحكومة الذين يأتون مطالبين بقيمة مخالفات أشغال الطريق، أو الضريبة العقارية المسماه بـ “الوركو” على بيوتهما الكثيرة.
قال محمد: أنا محمد بخيت.
قالت: ممكن أتحدث معك على إنفراد.
قام محمود قائلا: سأطلب الشاي لكما، أم تريدين قازوزة؟
إبتسمت قائلة: ليس مهما.
إبتعد محمود وجلست هي مكانه قائلة: جئت من طرف البيضة.
سألها: من البيضة هذه؟!
قالت: التي إشتريت بيتهم في شارع السيالة.
تذكرها، وعندما ذكرت إسمها، تمنى أن تكون هي، وإنها تسأل عنه وتريده، كما يريدها هو: تذكرتها، ماذا تريد، هل حدث شيء لشقتهم؟
ضحكت بصوت مرتفع: الموضوع ليست له صلة بالسكن، وإنما بالعشق.
أحس بالضيق والخوف معا: أرجوكِ، سيدتي، لا شأن لي بهذه الموضوعات.
إنحنت وإقتربت بفمها من إذنه قائلة: البنت تريدك في الحلال، هل في هذا خطأ؟!
جاء محمود ومعه الساقي يحمل صينية فوقها كوب الشاي، وزجاجة القازوزة في يده الأخرى. يريد محمود أن يطمئن بأن الموضوع ليس فيه خطورة على أخيه. وإنها لم تأت من قبل الحكومة.
قال محمد مبتسما: إطمئن، ليس هناك ما يقلق. أمسكت زجاجة القازوزة الباردة جدا قائلة: جئت متبرعة، فقد عانيت كثيرا من العشق، لذا، أشفق على أصحابه ولا أتأخر عن إنقاذهم. ضاق من كلمة العشق، ونظر إلى شرفات ونوافذ الجيران الذين يعرفونه، قالت: هل يمكن مقابلتها في مكان بعيد.
صاح مندهشا وغاضبا: كيف؟
قالت: لا تخف، الموضوع سهل، يمكن مقابلتها في الشلالات أو النزهة مثلا.
صاح بصوت مرتفع: يا سيدتي، تركنا بلدنا وجئنا للإسكندرية من أجل لقمة العيش، وليس من أجل العشق الذي تتحدثين عنه بهذه البساطة.
قالت: كل الرجال يتزوجون، أم تريد أن تبقى هكذا دون زواج؟!
عندما إنتهت من شرب زجاجة القازوزة، وقفت بقامتها المديدة، ومدت راحة يدها قائلة:
إختر أحد الحلين، إما المقابلة كما ذكرت لك، أو تأتي من الباب وتخطبها، صدقني، لن تندم.
قال:لكن أمها شرسة!
ضحكت: لا شأن لك بأمها، أسرع وأخطبها.
ثم سارت، وظل يتابعها في مكانه، ثم نظرت خلفها وهي تخرج من الزقاق الذي تقع فيه ورشة الخشب، ثم لوحت له بيدها، فرد تحيتها. يأتي محمد بخيت ومعه أخوه محمود وقريب لهما، دقوا باب شقة خميس بقرة، فتحت إنشراح فوجئت بإبتسامة هذا الشاب الذي إشترى البيت، نفس الإبتسامة التي لم تفارقة وقت رؤيته للبيت لأول مرة، صاحت بصوت مرتفع: أول ما أبتدينا.
وحاولت غلق الباب، لكن محمود دفعه وأعاد فتحه عن آخره. صاحت البيضة: ما الذي يحدث؟
قالت: أصحاب البيت الجدد، جاءوا مطالبين بالأجرة المتأخرة.
جاءت البيضة مسرعة، فقد حدثتها سميرة عن لقائها معه، وعن ترحيب الرجل لها، لكنه خائف من شرلسة أمها.
قال محمد: إهدئي يا إمرأة، لم نأت إلا بالخير.
أراد محمود أن يشده للخارج، فالموضوع واضح من أوله.
دخل الثلاثة، قالت إنشراح: لا يمكن أن يأتي الخير عن طريقكم.
عادت البيضة لتطمئن على زينتها، فها هو قد جاء لخطبتها، ثم أسرعت لأمها حتى لا تفسد كل شيء، قالت لها هامسة: لقد جاء لخطبتي يا أمي.
فهدأت المرأة، جلست منهارة، فما الذي أخبر إبنتها بسبب حضوره دون أن يقول، حتما هناك لقاءات وإتفاقات من وراء ظهرها.
تحدث محمود بصفته الأخ الأكبر الذي لا بد أن يبدأ الكلام: جئنا طالبين إبنتك لأخي محمد.
قالت إنشراح التي فوجئت بكل شيء: دقائق، أرسل في طلب زوجي، خميس بقرة، هذه هي الأصول.
جلست البيضة فوق الكنبة المواجهة سعيدة، تتابع وجه عزيزها.
خرجت إنشراح إلى الشارع، وأرسلت أحد الصبية ليستدعي زوجها، فجاء بملابسه المبتلة، ظنهم جاءوا ليخرجوهم من مسكنهم، فما أن رآهم حتى صاح: – – ألن ننتهي من مشاكل هذا البيت؟!
قالت انشراح: لا تتسرع يا بقرة، لقد جاءوا طالبين البيضة للزواج.
أسرع خميس بإشعال الوابور، فوضع براد الشاي فوقه وهو يبتسم ويرحب بهم. وجلست إنشراح لتتفق على كل شيء، قالت: وأين ستسكنها؟
إبتسم محمد قائلا: شققي كثيرة، لكنني إخترت شقة في بيتي بالباب الجديد.
صاحت في عنف وهي تضرب على صدرها الممتلئ: إبنتي لا تخرج من بيتي، إللي أوله شرط، آخره نور.
قال محمود غاضبا: شقة الباب الجديد واسعة وفيها أثاث و…
قاطعته قائلة: لا تؤاخذني، حديثي مع من سيتزوج إبنتي.
زفر محمود في غضب، أخوه جن، ألم يجد سوى إبنة هذه المرأة الشرسة، ليتزوجها، وصاح محمد معترضا: أخي محمود كبيرنا، والكلمة كلمته.
أحست البيضة بأن أمها قد تنهي الموضوع وتفسده بطريقتها هذه. فقالت: لدينا شقة خالية في الدور الثاني، نسكنها مؤقتا. وننتقل بعد ذلك لشقة الباب الجديد.
أراد محمود الإعتراض، وإلا فرضوا على أخيه إرادتهم في كل مرة، لكن محمد قال مبتسما:
– لن نختلف، نسكن هذه الشقة مؤقتا.
أراد محمود أن يعترض فقال محمد له: مؤقتا، وبعدها نتصرف. تم الزواج خلال أيام قلائل، فمحمد نقوده كثيرة. عندما إنفرد بالبيضة الجميلة، أعجبه فيها طولها وعرضها، حتى وجهها كان ممتلئا، وشفتاها ممتلئتان كبريتان. لا يعيبها سوى أسنانها البارزة، لذا تحرص على غلق فمها دائما وهي جالسة وسط الناس لتخفي هذا البروز. مشكلة محمد هي أمها – إنشراح – التي تتدخل في كل شيء، ظن أول الأمر إنه سيستطيع السيطرة على زوجته وإقناعها بالبعد عن أمها وأختها نبوية، وإكتشف أن من الصعب فصل زوجته عنهما. أختها نبوية مشغولة بزوجها حسني وأبنائها منه، هي التي تعد له خلطة الكفتة، تفرم اللحم وتضع الخضرة وباقي مستلزماتها، فقلما تأتي أمها للبيت، لكن إنشراح تقضي معظم الوقت في شقتهم، تطبخ لها، وتسأل محمد عن عمله، ثمن عربة الخشب الكسر، وجوال النشارة، وإيجار بيوته الكثيرة، فلا يرد عليها، يجيبها بعدم إظهار ضيقه وفي هدوء شديد: هذه أسرار عمل. عرض على زوجته الإبتعاد عن حي بحري، وشقته في الباب الجديد جاهزة وواسعة. لكنها ترفض بإصرار .
بعد تسعة أشهر، أنجبت البيضة إبنها أحمد. ذلك جعل محمد لا يلح في أخذ زوجته بعيدا عن أمها. ألح محمد بخيت على زوجته، بضرورة زيارتها لبيت أخيه محمود في الباب الجديد. فزوجته ” زُهرة ” مشتاقة لرؤيتها ورؤية أحمد إبنه، فصاحت البيضة في عناد: ولماذا لا تأتي هي لزيارتي؟!
قال: لا تنسي إن محمود أخي الأكبر.
وافقت البيضة، وأسرعت في طلب سميرة لتزوقها– جاءت سميرة وقد أحست أن في الأمر جديدا، فموعدها معها لم يحن بعد.
عندما إختلت بها، قالت سميرة: ليتك تحدثي زوجة أخو زوجك عني، أملي أن تمتد شهرتي لخارج بحري. ضحكت البيضة ووعدتها بذلك. وبالفعل حدثت زُهرة عن سميرة ومهارتها في جلي الشعروالتزويق، وتزويج البنات، في الآونة الأخيرة تحولت لخاطبة، تسعى لتزويج البنات بمهارة شديدة. تضحك زُهرة، فهي تعلم أن سميرة كانت سببا في زواج البيضة من محمد – شقيق زوجها – وشردت وهي تحدث البيضة، ستجعلها تأتي لزيارتها لجلي الشعر عن وجهها وجسدها، وتزويقها، مثلما تفعل مع البيضة، وأيضا، لكي تزوج أختها فريدة. فقد حاولت كثيرا مع محمد – شقيق زوجها – لكنه رفض، وتزوج البيضة. وسوف
تحدثها أيضا عن سبب تأخر إنجابها، فهي متزوجة قبل البيضة بثلاث سنوات، البيضة أنجبت بعد تسعة أشهر، وهي كما هي. حتما ما دامت تفهم في مسائل النساء، ستعرف في أسباب الإنجاب. سار محمد بخيت من بيته في السيالة حتى بيت أخيه محمود في الباب الجديد، مسافة طويلة جدا، والوقت متأخر، لكن الرجل ضاق بإنشراح وإبنتها، ولولا إبنه الحبيب – أحمد – لطلقها وأرتاح.
فتحت زُهرة الباب، صاحت مندهشة: تفضل يا حاج محمد – ثم صاحت بصوت مرتفع لزوجها النائم في حجرته -: أخوك محمد.
فجاء محمود مسرعا وقلقا: أخي محمد، تفضل.
جلس محمد مهموما: ماذا حدث؟!
قالها محمود وهو شديد القلق على أخيه الحبيب.
إبتعدت زُهرة لكي تسمح للأخوين لأن يتحدثا براحتهما، قال محمد: تعبت يا أخي، ظننت أني قادر على أخذ زوجتي بعيدا عن أمها، لكنني فشلت.
قال محمود: أصبر من أجل إبنك.
قال: هذه هي مشكلتي.
قال محمود: لا تغضب هكذا، النساء كثيرات، وأنت ولله الحمد قادر على الإنفاق على أكثر من بيت.
سأله:ةتقصد أن أتزوج؟
قال: هذا هو الحل الذي سيجعلها صاغرة ومطيعة لك.
تنهد محمد في أسى وصمت، ثم قال: سأصعد لأنام في شقتي.
أقسم محمود ألا يخرج من شقته وهو في هذه الحالة.تعودت البيضة السهر في شقة أمها، أو تصعد أمها وأختها إليها ويسهران حتى يأتي زوجها متأخرا. قالت إنشراح: زوجك تأخر هذه الليلة.
قالت: أخشى أن يكون قد حدث له مكروه.
صمتت إنشراح بعض الوقت ثم قالت: هل إختلفتِ معه ليلة أمس؟
– لا……
ثم تذكرت، فقد ألح عليها ليلة أمس أن يتركوا هذه الشقة ويعيشوا في شقتهم بالباب الجديد، بعيدا عن أمها وأختها.
قالت إنشراح: ما دام الأمر كذلك، فزوجك غاضب منك، ويريد تأديبك بالبعد عنكِ.
– والعمل؟
نامي أنتِ وإبنك وسوف يأتي إليك صاغرا مضطرا. يستيقظ محمد، يدخل الحمام، يتوضأ ويصلي، بينما زُهرة تعد الطعام، يجلس بجوار أخيه، يحكي له عن أم سليمان التي تسكن الدور الثالث من بيت السيالة، أرملة، مات زوجها منذ أكثر من ثلاث سنوات. تزوجت منذ أيام قلائل، زوجتها سميرة التي ” تزوق” النساء في حي بحري. أراد محمود أن يقول إنها تأتي لـ “تزويق” زوجته زُهرة، لكنه خجل أن يذكر هذا لأخيه. خرج الأخوان لعملهما، وظلت زُهرة وحدها في الشقة، إنها تعرف كيف تستدعي سميرة إذا أرادتها، تأتيها في أوقات إتفقا عليها، لكن لو جدت أمور، تتصل بالمدرسة – تليفونيا – فتأتيها مسرعة. ظلت زُهرة تنتظرها، قالت سميرة وهي تلوح بحقيبتها السوداء: ماذا حدث، حفل مفاجئ.
حدثتها زُهرة كثيرا بأن تجد عريسا لأختها فريدة، البنت كبرت ولم يأت طالب لها. وسميرة تطمئنها من وقت لآخر. قالت زُهرة: لا أريدك لهذا الأمر، وإنما لسبب أهم.
– اللهم أجعله خيرا.
جلستا معا على الكنبة العربي، قالت زُهرة: أعرف إنك كنتِ سببا في زواج البيضة من محمد شقيق زوجي.
قالت سميرة: وسأزوج أختك فريدة في القريب.
قالت زهرة: لكنك آذيت شقيق زوجي بهذه الزيجة.
– لماذا، البيضة جميلة و…….
قالت: أمها يا سميرة، لا تريد أن تتركها، كما إنها تحرضها على زوجها……
مدت سميرة يدها قائلة: لا تكملي، أعرف إنشراح جيدا، لا يستطيع أحد إحتمالها.
– والعمل يا سميرة؟
– تريدين أن يطلقها؟
– لا من أجل إبنها، وإنما أن تتأدب وتطيعه.
– كيف؟
– بأن تزوجيه بأخرى.
عادت سميرة للخلف قائلة: تأديب صعب، لكنه ممكن.
ظلت المرأتان تتحدثان حتى جاءت فريدة – أخت زُهرة – وكانت سميرة تراها لأول مرة في حياتها. وعندما إبتعدت عنهما، قالت سميرة: ولماذا لا تزوجيه أختك هذه؟!
قالت زهرة: عرضتها عليه من قبل، فرفضها.
قالتلا سميرة: سيقبلها الآن، لكن تحركي بسرعة. عندما تجاوزت أيام إبتعاد محمد بخيت عن بيته لأسبوع بأكمله، إنشراح أن تأخذ إبنتيها وتذهب إليه في بيته بالباب الجديد، قالت إنشراح لزوج إبنتها، أمام محمود وزُهرة – زوجته: مالك يا رجل؟
رحب محمد بهن: تفضلن. أهلا بكن.
جلسن متجاورات، كانت البيضة تنظر إليه بحب وإبتسام، تتمنى لو عاد معها الليلة، فقد إشتاقت إليه ولحديثه. وصاحت إنشراح: بلا أهلا بلا سهلا، هيا يا رجل إلى بيتك.
قال: لن أعود لشارع السيالة ثانية.
ضحكت نبوية قائلة: البيت كله ملكك.
قال: ليس مهما.
قرصت إنشراح إبنتها نبوية لتتكلم، فقالت: وأختي لن تترك بيت أمها مهما حدث.
كانت البيضة حائرة، لا تريد أن تفقد زوجها الذي تحبه، وأيضا لا تريد أن تبدو ضعيفة أمام أمها وأختها.
وقفت إنشراح منهية اللقاء، فتبعتها نبوية، وقالت البيضة لأمها في توسل: لحظات قصار يا أمي.
فصرخت أمها فيها غاضبة: هيا يا بنت.
جاءت زُهرة من المطبخ، حيث كانت تعد الشراب، قالت: مهلا يا ست انشراح.
نظرت إليها في إستخفاف وخرجت من باب الشقة، وتبعتها نبوية، بينما ترددت البيضة بعض الوقت، حتى صرخت أمها فيها: هيا يا بنت.
قال محمد: لولا إبني لطلقتها الليلة وإرتحت.
قال محمود: تزوج يا أخي عليها، هذا هو الحل.
صمت بعض الوقت، قالت زهرة له: ما رأيك في فريدة أختي؟
قال: أنتِ وهي من أفضل الناس، لكن……
قالت زهرة: فريدة مستعدة أن تكون خادمة لك.
صاح محمود: أتكل على الله.
لم يجب محمد بشيء، فقال محمود: لست أول من تزوج على زوجته، البيضة بعد زواجك عليها ستتغير، وسترى بنفسك.
تم زواج فريدة على محمد في الشقة العليا ببيت الباب الجديد. إنتشر الخبر في حي بحري، سميرة زوجت محمد بخيت من زوجة أخرى غير البيضة إبنة انشراح.
بكت البيضة وضربت إنشراح على فخذيها حتى أدمتهما، لابد من الإنتقام من سميرة، قالت البيضة: نحن في زوجي الذي ضاع مني.
قالت الأم: دعيك منه، فسوف يأتي…..
قاطعتها غاضبة: كفى يا أمي، الرجل تزوج وإنتهى الأمر.
صاحت في غضب: ماذا حدث لك يا بنت؟!
قالت:ىسأعود لزوجي وأبو إبني، سأعيش خادمة له.
غضبت إنشراح: أتقولين هذا أمامي، أنت ترين كيف أتعامل مع أبيكِ، وترين أختك نبوية وهي تسب وتسخر من حسني زوجها.
قالت البيضة: زوجي يختلف عن أبي وزوج أختي.
وعادت البيضة لبيت زوجها، دقت باب شقة محمود في الدور الأول العلوي، فتحت زُهرة الباب. رأتها وهي تحمل حقيبتها بيد وتحمل إبنها بالأخرى، كانت تبتسم لها في ود وإستسلام، قالتى زهرة: تفضلي يا بيضة، زوجك في شقته بالدور الأعلى.
دخلت حزينة ومنكسرة، وجاء زوجها، صافحها وقبل إبنه، قالت: لن أخالف لك أمرا بعد ذلك، لكن.. – وبكت -.
حمل حقيبتها وحملت هي إبنها أحمد وصعدا لشقتهما، صافحت فريدة التي إبتعدت وتركتهما معا لبعض الوقت، بكت البيضة قائلة: سأترك بيت أمي، لكن… – بكت ثانية- أرجوك أوجد لي شقة أخرى غير هذه. ربت خدها قائلا: سأوجد لك شقة أخرى، البيوت كثيرة. إستأذنت البيضة زوجها في زيارة أمها التي أرسلت في طلبها، قال: هذا حقك. ذهبت إليها، كانت أختها نبوية موجودة، قالت إنشراح: خالفتي أوامري وعدت لزوجك، بل قبلت الحياة مع ضرة في شقة واحدة.
قالت: دعيك من هذا الآن، فهو يعد لي شقة أخرى في بيت كوم الشقافة.
صمتت الأم في غيظ، ثم صاحت ثانية: وسميرة التي كانت سببا في هذه الزيجة، أسنتركها دون عقاب؟!
قالت البيضة: أرسلتِ لي من أجل هذا؟!
قالت نبوية في هدوء: ما حدث سيهز صورة أمك في المنطقة، وستفقد مكانتها بين الناس، الكل سيتجرأ عليها.
نظرت البيضة إلى أمها: دعيها لحالها وكفى ما حدث.
وقفت إنشراح غاضبة: تعرفين لو لم نؤدب سميرة، لن تقوم لي قائمة بعد ذلك، الكل سيتطاول ويشمت في.
أشاحت البيضة بيدها، فقالت نبوية: إذا تحدثنا مع واحدة، ستقول: روحوا لسميرة التي فعلت بكن كذا وكذا.
بكت إنشراح قائلة: حزينة لأنني أنجبت بنتا بكل هذا الضعف والتخاذل.
قالت البيضة وهي تقبلها: أفعلي بها ما تشائين.
قالت نبوية: أرسلت في طلبها، ستظن إننا نريدها في عمل. دقائق وجاءت سميرة تلوح بحقيبتها السوداء، قالت للبيضة: بلغني إنك عدت لزوجك رغم زواجه عليكِ.
أومأت البيضة برأسها موافقة: وإنك تعيشين الآن مع ضرتك في شقة واحدة.
قالت نبوية: هذا بفضل تدبيرك. صاحت سميرة غاضبة: لقد تزوج أخت زوجة أخيه، ما شأني أنا بكل هذا؟! صاحت إنشراح: بركاتك حلت يا حاجة سميرة علينا.
أسرعت نبوية وأغلقت الباب، وأمسكوا بها، إضطرت البيضة أن تشترك معهما، فسميرة حدثتها بشماتة واضحة. أمسكت البيضة يديها في عنف، ورفعوا ملابسها عنها، ووضعت إنشراح الشطة في أحشائها. ظلت سميرة تصرخ كالمجنونة، أسرعت أم سليمان وزوجها مسعود ليريا الخبر، وجاء كل سكان البيت، والبيوت المجاورة. أسرعت سميرة للطريق مفرشحة ساقيها، وهي تولول من الألم الرهيب، أسرعوا بطلب الإسعاف، التي نقلتها للمستشفى الأميري. تم القبض على إنشراح وإبنتيها، وعندما علم محمد بخيت أسرع للمستشفى، قابل الأطباء، قال كبيرهم: من فعل هذا سيسجن لاشك، فقد كادت تموت. دفع محمد مبالغ كبيرة لكي يغيروا التقرير الطبي، وصعد للعنبر المحجوزة فيه سميرة، عندما رأته قالت في وهن شديد: كل هذا لأني زوَّجتك.ربت كتفها قائلا: الأطباء طمئنوني. ثم أخرج مبلغا كبيرا من المال، ووضعه بين يديها، فأحست بمدى ضخامته، قال: هذا لكي تتنازلي عن المحضر.
إستطاع أن يقنعها بالتنازل، ففلتت إنشراح وإبنتاها من السجن. لكن محمد بخيت أقسم ألا تعود البيضة ثانية إليه، تعيش في بيت أمها كما تشاء، وسيرسل إليها مصاريفها ومصاريف إبنه أحمد أول كل شهر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top