التخطي إلى المحتوى
قصة قصيرة.. القطة العجوز.. بقلم: سعيد رفيع

رأيته مرارا يجوب الشوارع فلم أحفل به ، ولكن في تلك المرة اقتفيت أثره ، شيخ كبير بين الثمانين والتسعين ، يرتدي حذاء باليا ، وجلبابا أبيض قصير، لفحته الشمس فتداخلت فيه مساحات عديدة باهتة ، وعلى رأسه طاقية بنية ترتكز فوق أذنين كبيرتين مفلطحتين ، أما صفحة وجهه فتموج بنتوءات وأخاديد عميقة كالأرض الجدباء.

لم يستحوذ الرجل سوى على انتباهی وانتباه السياح الذين أخذوا يلتقطون له الصور وللقطط التي تتبعه.. خمس قطط مختلفة الألوان تتبعه في طابور منتظم .. تقف إذا وقف .. ثم تتابع سيرها عندما يتحرك ، دون أن تأبه للمارة أو السيارات المارقة ، وكأنها لا تعرف من الدنيا سواه.

تبعت الرجل من أمام مقهى شدوان مرورا بالدكاكين المجاورة حتى بلغ مطعم المعلم قاسم ، فدخله ، وأنا في أعقابه ، ولم يكد المعلم يلمحه حتی صاح : « ساندوتش لأبو المعاطی یا جابر ) ، فهرع الصبي بالساندوتش لأبی المعاطى الذي تناوله ودسه في جيبه الأيمن ، وراح يدور على الموائد ليلتقط بقايا الأطعمة ، ويدسها في جيبه الأيسر ، ثم انسل خارجا ، فتبعته متجاهلا نداء المعلم قاسم : « إزيك يا حسين .. عاوز حاجة ؟».

واصل الرجل سيره في اتجاه المسجد الكبير ، ثم عبر الطريق ، وعرج يسارا في الأزقة الضيقة حتى بلغ بيتا قديما واطئا ، شيد من الحجر ، وسقف بالمواسير وألواح الصاج ، فدفع بابه الخشبي بقدم مرتعشة ، ثم دلف والقطط في أعقابه ، بينما تجمدت في مكاني ، أغالب فضولي وأتطلع إليه من النافذة ، غير آبه لنظرات مستنكرة أنشبتها في وجهي نسوة يردن الماء من مضخة مجاورة .

تربع الرجل على الأرض في منتصف الغرفة تماما ، وألصق ظهره بالجدار، منحنيا برأسه قليلا إلى الأمام ، ثم فرك أنفه براحته ، وراح يطلق صفيرا خافتا متقطعا ، وتراءى لي أنه يهمس لكائن غیر منظور ، فدارت عيناي في أرجاء الغرفة، فلم أرى سوى بقايا أسمال وأوان قديمة ، ولحظنی الرجل فأرجفت ، وهممت بالإنصراف ، ثم تجاسرت بتلاوة الفاتحة والمعوذتين ، وعاودت التطلع إليه ، فرأيته يرنو إلى صندوق کبیر ، سرعان ما امتدت إليه يمناه لتخرج منه قطة ارتخت قوائمها الأربعة ، وخلت مساحات كبيرة من جسدها من الشعر ، فوضعها في حجره ، بينما تحلقت حولهما بقية القطط ، وراحت تتواثب على رجليه وكتفيه ، فأشار إليها بسبابة مرتجفة ، فاصطفت قبالته ثم لاذت بالسكون .

أخذت القطط تتململ في وقفتها ، فدس يده في جيبه الأيسر ، وألقى مابه إليها ، فتدافعت إليه ، بينما ظلت القطة العجوز ساكنة تلعق أصابعه ، فمرر راحته عليها برفق ، ثم شرعت أصابعه تتعاقب على جيبه الأيمن .. لقمة للقطة، وأخرى له .

قد يهمك:يوم الصلحة ماذا يحدث فيه.. من العادات والتقاليد عند الزواج في جنوب مصر

التعليقات

اترك تعليقاً