الصفة الأولى التى يستطيع أى قارىء لطه حسين أن يتبينها – فى يسر – أنه كاتب موسوعى نظرا لتعدد المجالات التى أبدع فيها وألقى فيها بسهامه الوافرة فقد بلغت مؤلفاته ما يقرب من الخمسين كتابا فى الشعر والقصة والسيروالتاريخ والأدب وفلسفة التربية ومن هذه الأعمال : ” على هامش السيرة ” – ” الشيخان ” – ” الفتنة الكبرى ” – ” مرآة الإسلام ” – ” فلسفى ابن خلدون الاجتماعية ” أما كتبه النقدية والسردية – وهو ماسوف نتوقف عنده – فيأتى فى مقدمتها كتابه الذى أحدث – ولايزال – جدلا واسعا حول أطروحاته الجريئة وهو ” فى الشعر الجاهلى ” الذى استخدم فيه الشك الديكارتى وطبقه على الشعر الجاهلى ووصل إلى النتيجة الصادمة وهى أن أغلب هذا الشعر منحول ولا يعبر عن الحياة الجاهلية فى شىء ولا يمثل اختلافات اللهجات العربية وأنه قد كتب فى الفترة الإسلامية بلهجة قريس بعد سيادتها وانتشارها فى شبه الجزيرة العربية ثم توالت كتبه النقدية من قبيل : ” الحياة الأدبية فى جزيرة العرب ” – ” فصول فى الأدب والنقد ” – ” حافظ وشوقى ” – ” صوت أبى العلاء ” – ” مع المتنبى ” – ” من أدبنا المعاصر ” – صحف مختارة من الشعر التمثيلى عند اليونان ” – ” الحياة والحركة الفكرية فى بريطانيا ” وبتأمل هذه العناوين تتضح موسوعية طه حسين الذى جمع بين دراسة الأدب القديم والحديث والمعاصر واليونانى والغربى أما أعماله السردية فأشهرها سيرته الذاتية ” الأيام ” ثم ” المعذبون فى الأرض ” و” دعاء الكروان ” و” الحب الضائع ” و” أحلام شهرزاد ” و” شجرة البؤس” و” جنة الحيوان ” و” القصر المسحور ” وهو عمل مشترك بينه وبين توفيق الحكيم و” أديب ” التى عالج فيها علاقة الشرق بالغرب من خلال شخصية إبراهيم الذى حصل على بعثة إلى باريس فخطفته مدينة ” الجن والملائكة ” ونسى جذوره المصرية .ولأن طه حسين يدرك جيدا أهمية الاطلاع على آداب الأمم المتحضرة فقد اهتم بالترجمة فى ” صوت باريس ” و” من أدب التمثيل الغربى ” و” من هناك ” و” من بعيد ” الذى يدور حول سياحته فى بعض الدول الأوربية .
طه حسين شاعرا :
هناك صفحة تكاد تكون مطوية فى حياة طه حسين وهى أنه بدأ شاعرا يكتب بالفصحى والعامية من عام 1908إلى 1914ثم طوى هذه الصفحة ولم يعد إليها إلا ليرد على مدح على الجندى له بقوله :” من لى بمثل طه مبدع السحر الحلال / حتى أقوم بشكر ما أوليت يافخر الرجال ” فأجابه طه حسين : ” من لى بقلب مثل قلبك أو بفن مثل فنك /حتى أقوم بشكر ما أوليتني من حسن ظنك ” أما خلال السنوات المشار إليها فقد نظم عشرات القصائد في السياسة الغزل والاجتماع والرثاء و الوجدانيات ونشرها في جرائد “السياسة” و “الجريدة ” و”مصرالفتاة ” مثل ” آه لو عدل ” – وسوف نعود إليها – و” ليت للحب قضاة ” و” رجاء الدستور” و” حديث مع النيل ” و” شكاة الأديب ” ففى ” حديث مع النيل ” التى نشرها فى ” مصرالفتاة ” فى مايو1909لايقف واصفا للنيل إلا بصورة عابرة لكى يفرغ لهمومه الوطنية حين يقول :” وقفة فى الصباح أو فى الأصيل / يتجلى فيها جمال النيل – تنزع البائس الحزين عن البؤس / وتنسى المحب عذل العذول – رب ليل قد بات فيه لى الهم / نزيلا أبغض به من نزيل – ما عنائى وما عناؤك يانيل / لقوم رضوا حياة الذليل – كاتب نائم و ذو شعر لاه –وأديب سبته كأس الشمول – شاعر النيل لالا عدتك العوادى / هل لهذا السكون من تأويل ” فبعد الوصف العابر لجمال النيل الذى ينسى البائس بؤسه وينسى المحبعذل العذول فإن هذا لايمنع الهموم التى تحاصره ليلا بعد الراحة المؤقتة فى الصباح والأصيل وهنا يستشعر عناءه وعناء النيل بسبب القوم الذين رضوا حياة الذليل فى ظل الاستعمار وأصبحت نخبته مابين كاتب نائم وشاعر يلهو وأديب يعاقر الخمر وفى النهاية يتوجه لشاعر النيل حافظ إبراهيم متسائلا عن سر ذلك السكون أو لنقل الاستكانة التى شملت الجميع أما قصيدة ” آه لو عدل ” التى نشرها فى جريدة ” مصر” عام 1909فإن د.محمد أبو الأنوار يعدها المحاولة الثالثة فى تجديد عروض الشعر بعد محاولتى البارودى وشوقى حيث استخدم ” فاعلن ” ثم راوح – فى العروض – بين فعل – بفتح الفاء والعين – وفعول فى قوله ” شادن عطف / عطفة الحبيب – بعدما صدف / صدفة الملول ” وهو مايؤكد أن التجديد – منذهذه البدايات الأولى – يعد إحدى غايات مشروع طه حسين التنويرى .
مع التجديد دائما :
اللافت – حقا – أن طه حسين لم يقف – فى مراحل حياته كلها – ضد تجديدات الشعراء وذلك على خلاف العقاد – وهذه مقارنة وليست مفاضلة بين الرجلين – الذى بدأ مجددا ومعارضا عنيفا لشوقى ثم عارض – وهذه هى المفارقة – تجديدات شعراء أبوللو ثم شعراء حركة التفعيلة .بينما ظل طه حسين مدافعا عن التجديد رافضا لأى قيود تكبل حركية الإبداع حين يقول ” إنى من أنصار الحرية فى الأدب ..هذه الحرية التى لاتؤمن بالقواعد الموضوعية والحدود المرسومة والقيود التى فرضها أرسطوطاليس …الأثر الأدبى عندى هو هذا الذى ينتجه الكاتب أو الشاعر كما استطاع أن ينتجه لا أعرف له قواعد ولا حدودا إلا هذه القواعد والحدود التى يفرضها على الأديب مزاجه الخاص وفنه الخاص ..أنا لاأرى لأحد كائنا من يكون أو جمعة أن يكلف الأديب أو يوجه أدبه هذه الوجهة أو تلك وإنما ألأديب حر يكتب مايشاء ويكتب كيف يشاء ” ( ” المرايا المتجاورة ” د.جابر عصفور ص105دار قباء ) وقد تجلى هذا فى آخر مواقفه من قضية شعر التفعيلة / الشعر الحر فى مقاله ” التجديد فى الشعر ” من كتابه ” من أدبنا المعاصر ” وذلك فى صدد الرد على الشاعر عزيز أباظة وعلى قصر هذه المقالة فقد أورد فيها مجموعة من الأفكار
يمكن إجمالها فيما يلى :
- الشعر صدى القلوب والنفوس والطبائع : حيث لايرد نزعتى المحافظة والتجديد إلى إرادة الشعراء فحسب بل يردها إلى اختلاف الطبائع والنفوس وبهذا فهو لاينكر على المحافظين محافظتهم ولا على المجددين تجديدهم طالما كان هذا التجديد صادقا لا متكلفا
- القدماء جددوا : يؤكد طه حسين أن العرب قد جددوا فى شعرهم ” فابتكروا فى الإسلام أوزانا لم تكن فى العصر الجاهلى وابتكروا فى العصور المتأخرة أوزانا لم تكن فى الشعر الإسلامى الأول …ولم ينكرها عليهم أحد “
- حرية الفن والتزامه : يرى طه حسين أن ” الأصل فى الفن حرية خالصة من جهة وقيود ثقال من جهة أخرى حرية فى التعبير وطرائقه وما يبتكر فيه من الصور والمعانى وقيود يفرضها صاحب الفن على نفسه فى مذاهب الأداء يلتزمها هو ولا يلزمه إياها أحد غيره “
- مع التجديد : أخيرا لايرى طه حسين بأسا من مشايعة المجددين من الشباب فى أن ” يتحرروا من قيود الوزن والقافية إذا نافرت أمزجتهم وطبائعهم لا يطلب إليهم فى هذه الحرية إلا أن يكونوا صادقين غير متكلفين ” ويعلل ذلك بقوله إننا أشد ظمأ إلى نفحات جديدة فى الشعر وأحر تشوقا إلى ” لون جديد من هذا الفن الأدبى الرفيع يرضى حاجتنا إلى تصوير جديد للجمال “
النقد الأدبى بين العلم والذوق :
الحقيقة المؤكدة أن طه حسين أديب قبل أى صفة أخرى ولهذا يعد الذوق عنده صفة أساسية عنده ينبغى أن تكون متوفرة فيما يمارسه من نقد أدبى بل إنه يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك حين يرى أن النقد الأدبى أقرب ما يكون إلى الفن القصصى ويرى أننا نجد ” فى قراءة القصيدة أو استماعها لذة فنية وفى قراءة النقد الأدبى أو فى استماعه لذة فنية لعلها تربى على اللذة الأولى ” وترتبط هذه اللذة – بداهة – بالحس والشعور اللذين يقربان الشعر من الموسيقى وتلخص تلميذته النابهة سهير القلماوى فى كتابها ” ذكرى طه حسين ” منهجه بأنه جامع بين ” موضوعية العلم وذاتية الفن حتى يكون فيه لذة العقل ولذة الشعور ولذة الذوق جميعا ” هذا التأكيد على الذوق يعكس إيمان طه حسين بأن ” الناقد أديب بأدق معانى الكلمة مثلما آمن أن النقد أدب بأصح معانى الكلمة ” ويمكن القول إنه قد تأثر فى بداية حياته بالشيخ سيد المرصفى ثم منهج الجامعة المصرية فى تأريخ الآداب تأريخا يمكن من فهم الأمة العربية والإسلامية فهما صحيحا بالإضافة إلى معايشته لكافة المناهج الغربية أثناء بعثته وفى هذا يمكن أن نقول إنه قد تأثر بالمنهج التاريخى عند هيبوليت تين والمنهج النفسى عند سانت بيف الذى يركز على معرفة شخصية المبدع وتعلم من أستاذه لانسون أن ” العمل ليس وثيقة تاريخية بما تثيره صياغته من استجابة عاطفية وجمالية ” ( ” المرايا المتجاورة ” ص52) الأدب إذن مرآة للفرد وللمجتمع وهما جزء من عائلة إنسانية واحدة تصل أبناء الشرق والغرب .
سرديات طه حسين :
هذا مبحث كبير لانستطيع أن نلم به فيما تبقى من هذا المقال فسرديات طه حسين كثيرة متنوعة تأتى ” الأيام ” – كسيرة ذاتية – فى مقدمتها ثم تتوالى : ” دعاء الكروان ” و” الحب الضائع ” و” أحلام شهرزاد ” فلو توقفنا أمام هذه الأعمال الثلاثة سنجده ينتقل من نموذج المرأة الواقعية فى ” دعاء الكروان ” إلى نموذج المرأة الرومانسية التى تقع فى غرام زوج صديقتها وتظل فى صراع مابين العاطفة وواجبات الصداقة حتى ينتهى الأمر بموتها ثم نموذج المرأة الأسطورية فى ” أحلام شهرزاد ” وهو تنوع دال على خصب الخيال السردى عنده ( ” فكرة الحب فى ثلاث روايات لطه حسين ” وليد منير فصول أكتوبر1990) ويرى صلاح عبد الصبور أن عقدة ” دعاء الكروان ” تقوم ” على فكرة غير محلية على الإطلاق حتى لو استعار الكاتب شخصياته من حياة بادية ريف مصر ..إنها قصة الانتقام بالحب ” ( ” ماذا يبقى منهم للتاريخ ” صلاح عبد الصبور ص18هيئة الكتاب 2005) ويرى أن هذه العقدة فرنسية بل باريسية صرفا ولا أرى عيبا فى ذلك فهدف طه حسين هو الانتصار لقيمة الحب ضد رغبة الانتقام التى تدمر صاحبها قبل أن تدمر الآخر ويرى عبد الصبور أن ” الحب الضائع ” قريبة فى فكرتها من ” مدرسة الأزوجات ” لأندريه جيد وهذا صحيح لكننا ينبغى أن نراعى أن الرواية العربية كانت فى بداياتها وكان من الطبيعى أن يعتمد جيل طه حسين وحسين هيكل على محاكاة النماذج الغربية والحق أن رواية ” أديب ” تعد من أنضج روايات طه حسين وهى تصور انشطار المثقف المصرى بين حضارته وحضارة الغرب .
ولا أرى – ختاما لهذا المقال – أصدق وأدق مما قاله العقاد فى طه حسين بعد وفاته ” إنه رجل جرىء مفطور على المناجزة والتحدى فاستطاع بذلك نقل الحراك الثقافى بين القديم والحديث من دائرته الضيقة التى كان عليها إلى مستوى أوسع وأرحب بكثير ”
التعليقات