التخطي إلى المحتوى
رواية شتاء حار للكاتب سعيد رفيع
رواية شتاء حار سعيد رفيع

اسمحوا لي أن أنشر هنا اسبوعيا فصل من فصول روايتي (شتاءحار) بناء علي رغبة الأحبة الكثيرين منكم ممن لم تتح لهم الفرصة لقراءة روايتي التي صدرت عام 2010.
تنويه: جرت احداث هذه الرواية مابين مدينتي رأس غارب والغردقة.. بين عامي 1940،1938
الفصل الأول من رواية(شتاءحار)
**********
تقول نوره أن الزواج تم في الغردقة ، حيث يقيم أهلها وأهله ، وحيث يعمل ابراهيم في الكوبانية الانجليزية التي تنقب عن النفط ، ثم تعرج الى الحديث عن العرس ، الذي أقيم في الباحة الكبيرة التي تتوسط بيوت العرينات ، وقبل أن تدلف لوصف ما جرى في العرس ، تحرص على أن تلفت انتباه النسوة الى أن قيمة العرس تقاس بعدد الذبائح التي نحرت فيه ، وهنا تشرع سبابتها لتقول أن ثمانين ذبيحة ، مابين خروف وتيس ، ( طاحت ) في ليلة الزفاف .
بعد ذلك مباشرة تبادر نوره الى وصف تفاصيل العرس ، وأسماء أبرز الرجال والفتيان الذين اظهروا مهاراتهم في فنون السامر ، ولا تنسى أن تؤكد أن رجال العرينات وفتيانها فاقوا في مهارتهم سائر الرجال والفتيان من القبائل الأخرى ، بما في ذلك رجال وفتيان الرشندية الذين شاركوا في العرس ، مجاملة لجيرانهم ، ولا يفوتها في خضم الحديث عن الرجال والفتيان ، أن تذكر أن العرس لم يخلوا من رقص النسوة ، اللاتي استعرضن مهاراتهن في الرقص على اهازيج الرفيحي (1) والمتينة (2) ، وهنا تتوقف نوره فجأة عن الحكي ، وتتفرس في وجوه النسوة ، ثم تواصل الحكي بقولها أن نساء العرينات لا يسمح لهن بمباشرة الرقص الا بثياب سوداء فضفاضة ، وأنه يتعين على المرأة عند الرقص في الاعراس أن تخفي رأسها بالمسفع (3) ووجهها بالنقاب ، حتى لا يرى منها سوى عينيها ، وحتى يستحيل التعرف عليها أو تمييزها من بين النسوة ، فذلك شرط ضروري لا يتنازل عنه الرجال العرينات ، وترضخ له النسوة عن بكرة أبيهن .
ولا يغيب عن نوره ابدا ان تذكر أن ابراهيم ليس بغريب عنها ، بل هو من ذات القبيلة ، وانها فخورة بالزواج منه ، لأنه الوحيد من بين فتيان العرينات الذي اصطفاه الانجليز للعمل معهم في الكوبانية ، وأن سائر الفتيان كانوا يحسدونه على ذلك ، خاصة بعد أن عرفوا أن اجره في اليوم الواحد كان يتجاوز العشرة قروش ، هذا بخلاف التموين الشهري الذي كانت الشركة تمنحه للعمال مجانا ، والذي كان يتكون من الدقيق والزيت والسكر والشاي والارز .
وكالعادة كانت نوره لا تكف ، خلال سردها لهذه الحكاية بالذات ، عن تحسس أثر ذلك الجرح القديم الذي يتوسط جبهتها ، والذي طغى اثره على الوشم الأخضر الأكثر قدما ، الذي كان يزين تلك الجبهة ، ولكن رغم طغيان أثر الجرح على الوشم ، فقد كان هناك وشم اخر ظل متماسكا ، وظل يحتفظ بلونه فوق الشفة السفلية ، يتفرع منه وشم ثالث دقيق ، ينطلق من منتصف الشفة ، ثم ينزلق الى أسفل في شكل عمودي ، حتى ينتهي عند منتصف الذقن .
لم يكن هذا فقط هو الذي يميز وجه نوره ، بل كانت صفحة الوجه ناصعة البياض ، وكانت العينان السوداوان ، الكحيلتان على الدوام ، تضفيان على الوجه ملاحة ، تطغى على بقايا تلك الندوب الصغيرة في الوجه ، والتي تنم عن اصابة قديمة بمرض الجدري .
هنا بالتحديد تكون نوره قد
دخلت الى قلب الحكاية ، فتعود لتتحسس جبهتها للمرة الرابعة أو الخامسة ، ثم تواصل الحكي بقولها أنه بعد عامين من الزواج عاد ابراهيم من عمله مهموما على غير العادة ، وقبل أن تسأله عما به ، باغتها بقوله أن الكوبانية قررت نقله من الغردقة ، مع مجموعة أخرى من العمال الى رأس غارب .
_ راس غارب؟
_ نعم.
_وهذي وين اراضيها؟
لم يجب .. واكتفى بأن شرع سبابته صوب الشمال ، ولكن نوره ، التي لم تصدق أذنيها ، والتي بدا انها شعرت بالخطر ، أو ربما بالحيرة ، عادت تكرر سؤالها من جديد :
_ وهذي وين اراضيها؟
– مسيرة نهار بالعربية؟
هرعت نوره الى المطبخ لتطفىء الوابور ، ثم عادت مسرعة
وجلست الى جانبه مباشرة فوق السرير ، وهي التي اعتادت أن يجلس هو فوق السرير ، وان تجلس هي على الأرض ، ويبدو أن ابراهيم ادرك أن نوره سوف تواصل سيل اسئلتها ، فبادرها قائلا :
– لقوا فيها زيت .. ويبغون لها عمال .
– وما لقوا عمال غيرك ؟!
– هذي اوامر لي ولغيري .
صمتت برهة .. ثم عادت الى اسئلتها :
– يا ولد الناس .. ليش ما تكلم الباش ريس يخليك في الغردقة ؟
– الباش ريس نفسه هو اللي كتب اسمي .
– طيب ليش ما تكلم الخواجة ؟!.
لم يعقب ابراهيم ، اذ كان يدرك أن الباش ريس لا يجرؤ على ان يقول شيئا أو يفعل شيئا دون اوامر من الخواجة شخصيا ،
فالباش ريس مجرد منفذ لتعليمات الخواجة التي تخص العمال ، أما الخواجة فانه متفرغ تماما للأمور الكبيرة فقط ، فهو الذي يتابع ، مع فريق من المهندسين الانجليز ، كل الأمور التي تتعلق بالتنقيب والانتاج ، كما يشرف على كبار الموظفين الاداريين والفنيين المصريين ، أما صغار العمال من أمثاله فقد كان أمرهم متروكا تماما للباش ريس ، الذي كان مسئولا عن ادارة جميع الأمور التي تخصهم ، بما في ذلك نقل كل ما يتردد بينهم من أحاديث الى الخواجة ، فالتجسس على العمال كان من صميم عمل الباش ريس ، وكان يرفع تقارير شفهية بذلك الى الخواجة (مايك) ، كبير الخواجات على الاطلاق ، خاصة وأن الباش ريس كان على دراية بكثير من مفردات اللغة الانجليزية ، بحكم احتكاكه المستمر مع المدير الانجليزي .
كان الباش ريس صعيديا ، وكعادة أهل الصعيد كان يرتدي الجلباب والعمامة طوال الوقت ، حتى في أوقات العمل ، التي كانت تبدأ عادة مع انطلاق صافرة الشركة في السادسة صباحا وحتى الساعة الثالثة بعد الظهر . كان الرجل ضخم الجثة ، ذا شارب كث ، يرتفع طرفاه الى جانبي أنفه ، وكان يرى على الدوام ، وهو يجوس في الرمال ، متنقلا بين مواقع الانتاج والتنقيب ، حاملا عصا غليظة على كتفيه ، خلف رأسه ،
بينما يقبض بطرفي العصا بكفيه ، وعندما يراه العمال من بعيد يكفون عن الثرثرة فورا ،
ويتفرقون في الموقع ، ويتشاغل كل منهم بما هو مكلف به ، ويظلون على حالهم هذا حتى ينصرف الباش ريس ، فيتنفسون الصعداء ، ويواصلون عملهم ، ولكن دون توتـر ، ثم لا يمضي وقـت طويل بعد ذلك حتى يهدأ ايقاع العمل ، لتبدأ الثرثـرة من جديد .
استمر الحوار طويلا بين ابراهيم ونوره ، ثم انتهى فجأة بكلمة واحدة : ( خلاص يا بنت ) ، قالها ابراهيم ، وهو يشيح بكفه في وجهها ، فنهضت على الفور ، واتجهت الى المطبخ لتشغل الوابور من جديد ، بينما استلقى ابراهيم على سريره ، ملقيا بناظريه صوب سقف الغرفه ، وظل على حاله هذا ، حتى ارتفع صوت شخيره ، الذي وصل الى نوره في المطبخ ، رغم الضجيج المتصاعد من الوابور .
كانت نوره تعرف جيدا متى تتحدث مع ابراهيم ، ومتى تلتزم الصمت ، وكانت تعرف أن الجدال معه مغامرة محفوفة بالمخاطر ، فقد ينتهي الجدل بأن يصرخ في وجهها ، ثم يأمرها بالخروج من الغرفة ، فرأت أن تفعل ذلك طواعية ، على أن تعاود الحديث معه في وقت لاحق ، اذ كان لا يزال رأسها متخما بالكثير من الاسئلة ، منها مثلا : هل سيرحل الى رأس غارب منفردا أم سيصحبها معه ، واذا لم يصحبها ، فهل سيغيب عنها بضعة شهور أم بضع سنوات ، اسئلة عديدة راحت تدور في رأسها ، لم
تفق منها سوى على رائحة الكيروسين التي تصاعدت من الوابور ، بعد أن غلى الماء في الصفيحة ، فتساقطت قطراته بكثافة فواق الوابور لتخنقه ، وتطفىء النار .
تعرف نوره جيدا أن ابراهيم كثيرا ما يفقد اعصابه عندما تتجادل معه ، وهي لا تغضب من ذلك ابدا ، لانها تعرف أنه طيب القلب ، وان عصبيته الزائدة في بعض الاحيان غالبا ما تخفي وراءها مشكلة ما تؤرقه ، فهو عزوف عن الشكوى ، هو من ذلك النوع من الرجال الذين يحرصون على عدم تصدير مشاكلهم أو مواجعهم الى الآخرين ، هو يفضل أن يواجه تلك المواجع وحده ، ولا يضطر الى البوح بها الا بعد أن تشتد ، وتستحكم حلقاتها حول رقبته حتى تكاد أن تخنقه ، حينئذ فقط يشرع في البوح بها الى نوره ، أو الى أحد اصدقائه المقربين .
نوره تعرف كل ذلك عن إبراهيم ، وتعرف ان تلك القسوة الظاهرة التي يتعامل بها معها احيانا هي قسوة مزيفة ، بل هي مجرد ستار يخفى قلبا محبا غاية في الرقة .. نعم .. هي تعرف كم يحبها
ابراهيم ، وكم يهيم بها ، هي تشعر بذلك الحب وهو يتدفق
من ابراهيم اليها عندما يقبلها ، او يحتضنها ، كما تشعر بارتباكه وقلقه عليها عندما تمرض ، أو تشكو ، أو تتوجع ، وهي تذكر كيف كان يسهر بجوار فراشها طوال الليل ، عندما اصابتها الحمى بعد زواجها منه ببضعة أسابيع ، كان يضمد جبهتها بالماء البارد ، ويغلي لها الحرجل والحلفا بر ، وعندما اشتدت بها الحمي ، وصارت تهذي ، احتضنها ، وشعرت بدموعه تنسكب من عينيه ، لتمتزج بعرقها ، الذي ينهمر من جبهتها .
وأكثر من ذلك فان نوره تدرك أن زواجها من ابراهيم لم يكن سوى خاتمة لقصة حب طويلة بينهما ، قصة حب صامتة ، كانت تعيش لحظاتها حينما تتقابل معه بالصدفة في دروب النجع ، فتبث لها عيناه رسائل دافئة من الحب ، وتتلقفها عيناها ، وتعيد بثها اليه بنفس الدفء والحرارة .
لا تنسى نوره ذلك أبدا ، كما لا تنسى أن ابراهيم كان مخلصا لها حتى النهاية ، فعندما تقدم الى خطبتها لم يلق قبولا من أبيها ، ليس لعيب فيه ، ولكن لأن أباها ، شيخ القبيلة ، كان يفضل تزويجها من ابن شقيقه ، ومع ذلك، فإن إبراهيم لم يستسلم لهذا الرفض بل واصل تمسكه بالزواح منها، وأرسل وفودا متعاقبة من كبار رجال القبيلة إلي أبيها، ولكن الاب كان يرفض وساطة الوفود، وكان إبراهيم من جانبه لا يمل من إرسال وتوسيط كل من يعتقد انه قادر علي إقناع الشيخ بالموافقة.
وامام إصرار إبراهيم، وتدفق الوفود إلي بيت الشيخ وافق الرجل مضطرا علي الخطبة، ولكن بعد ان وضع شروطا قاسية ومجحفة لإتمامها، وكان يعتقد ان قسوة الشروط كفيلة بان يصرف إبراهيم النظر عن الموضوع، ولكن إبراهيم لم يفعل، بل وافق علي الفور، فلم يجد الشيخ أمام ذلك سوى الرضوخ، فتمت الخطبة، ولم يمض وقت طويل بعد ذلك حتي زفت نوره إلي إبراهيم، بعد عرس بهيج لم تشهد له عربان الغردقة مثيلا.
******************
انتهي الفصل الأول
ويتبع الثلاثاء القادم إن شاء الله
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(1)الرفيحي: غناء ورقص جماعي للرجال يتميز بسرعة الإيقاع تشاركهم فيه النساء في الرقص فقط مستترات تماما بالملابس الطويلة الفضفاضة
(1)المتينة: نفس رقصة الرفيحي إلا انه يتميز بالإيقاع البطئ.
(3)المسفع :غطاء للرأس من قماش أسود خفيف.

قد يهمك أيضا:

نساء القبيلة.. شعر: جابر الزهيري

الزهراء.. قصيدة للشاعر الدكتور.. البيومي محمد عوض

قصة قصيرة… شئ من الخوف .. بقلم: سعيد رفيع

 

التعليقات

اترك تعليقاً