حصلت على الإعدادية من مدرسة طما الإعدادية الأميرية ، وماذا بعد ؟ لم يرد على ذهني هذا السؤال أصلا فهذا أمر لا أهتم به ، فلم يكن لديى فكرة عن الأسباب التي تدفع بالأطفال إلى المدارس، فما قر في ذهني أن الأرض هي مصيرنا جميعا ..وما التعليم إلا أمر طارئ. كانت لدي فكرة مشوشة عن الوظائف والموظفين فهم ناس لا يجيدون فعل شيء سوى لبس الملابس النظيفة، تنظر إليهم الناس باحترام وإشفاق .. وعادة ما يتركون البلد ولا يعودون إليه إلا في الأعياد وللوقوف على قبور من ماتوا من الأهل وربما للزواج من بنات القرية .وهذا ما فعله حسن إسماعيل الموظف في الصحة – وأنا بعد في المدرسة الإلزامية – حين جاء ليأخذ خالتي )ست الكل( .. و يسافر بها لى جهة اسمها (الفيوم) .. وكنت كلما رأيت على شاشة السينما التي تتردد على قريتنا للدعاية الصحية – شخصا يلبس الملابس البيضاء النظيفة ظننته )حسن إسماعيل(، وكلما رأيت امرأة تضع على رأسا طاقية بيضاء ظنننها خالتي ..
كنت أعرف من البلاد البداري التي سكنتها لأيام ، وطما التي أخذت منها الإعدادية .. وهنا سمعت عن بلاد أخرى لم أرها وإن كنت رأيت ناسا ينتمون إليها في المدرسة وسوق الأربع .. ورأيت أسيوط التي ذهبت إليها حين أرسلت بملابس التربية العسكرية ليلحق خالي علي بطابور الاحتفال بعيد الجلاء… وكنت أسمع عن حلوان .. ومصر .. ورأيت نقطا على الخريطة الدراسية كتب عليها أسماء كثيرة كأسوان والقاهرة والاسكندرية .. وكونت لمصر ( القاهرة ) في ذهني صورة لا تختلف كثير عن صورة أسيوط .
لقد فعلت ما علي .. حصلت على الإعدادية .. صحيح حصلت عليها راسبا في الحساب .. لكن لا يهم .. فلا أحد يعرف ذلك إلا بعض الأقراد .. علمت فيما بعد أن خالي الكبير (أحمد) .. وضع شهادة الإعدادية وشهادة التطعيم ( شهادة الميلاد ) في ظرف جواب وأرسله إلى خالي علي الذي تخرج لتوه من مدرسة التجارة المتوسطه وأوصاه أن يقدم لابن أخته في المدرسة.
في بداية العام الدراسي وجدت نفسي أستعد لدخول المدرسة في مصر ..أس مدرسة ؟ لا أدري ولا يهم .. فرحت طبعا فأخيرا سأرى مصر التي يقولون عنها (أم الدنيا) .. والتي تجعل ألسنة من يأتي منها معوجة .. لم أفكر أي مدرسة سأدخلها .. فحتى الآن أنا لا أعرف غير الأزهر .. الذي تعلم فيه أولاد جدي (عبيدالله) الشيخ محمد والشيخ طلعت، والتجارة التي تعلم فيها خالي ..ولما كان الشيخ عباس أقنع خالي أحمد بعدم التقديم لي في الأزهر الشريف .. فسوف يقدم لي خالي (على) في التجارة … وقد كان ..
وضعني خالي (أحمد) و(قفة) كبيرة عهلى مقعد من نافذة القطار الذاهب إلى ( مصر) في محطة (طما)، وأوصي بي واحدا من أهل القرية تصادف وجوده أسفل النافذة .. تلقفني الرجل بيد وبالأخرى حمل القفة ووضعنا على المقعد المقابل. عرفته .. كان طوبلا .. يدق الطوب الأخضر .. ولكن ضيق سبل الرزق دفعه للعمل في حلوان .. كان الرجل ضخم الجثة طويلا بشكل لافت ، ما أن تحرك القطار حتى التفت إلي قائلا : نام .. السكه طويله .. وخلع مركوبه بشع الرائحة .. و الذي أظنه كان أحمرا في يوم من الأيام .. وراح في النوم الموقع بالشخير ..
إلى المجهول مضى بي القطار .. رغم كثرة من ينامون حولي على مقاعدهم كنت أحس بالوحدة .. وربما فكرت في البكاء .. لكن – قلت لنفسي – عيب .. أنت كبرت على شغل العيال ده .. ظللت ساهرا أتطلع من نافذة القطار إلى عوالم يلفها الظلام والصمت .. حتى أشرقت الشمس .. حين توقف القطار للمرة العشرين ، نهض الرجل العملاق ولف شاله على رأسه بشكل محكم .. وقال لي : هيوقف القطر مرتين تاني .. ما تنزلش إلا لما يوقف في التالته .. هتلاقي خالك (علي) مستنيك ع الرصيف .. فاهم؟ هززت رأسي ..إكتفى الرجل بهذه الإجابة، وقذف بقفته إلى الرصيف وتبعها قافزا من النافذة والقطار يهم بالتحرك .
كما قال الرجل توقف القطار مرتين .. وحين توقف للمرة الثالثة .. سمعت صوت خالي علي يصرخ بلهفه : يا واد يا نسر .. يا درويش .. يا واد يا درويش .. كالغريق الذي أمسك بقشة النجاه .. صرخت: هووووي … أطل وجه خالي علي محملا بالإرهاق والعرق والقرف .. لا أدري لماذا ابتسم عندما رآني .. قفز إلى داخل القطار .. وحمل القفة وتبعته خارجين من القطار من الباب هذه المرة ..فقد توقف القطار تماما ..
رأيت مصر .. خيل إلي أن أهل مصر كلهم على رصيف القطار .. حاول أحد الحمالين أن يحمل عن خالي القفه . لكنه زجره قائلا .. متشكرين .. هم يا واد … وهممت أتبعه وضجيج مصر يصم آذاني.
التعليقات