ازم له هداية فص(21) من رواية ما بين الحياه والموت. عن قصة حياتى سعدنى السلامونى

دلقت روحي دم على الأسفلت

ومشيت

عيني بترصد دمها

فتحت باب قلبي اليمين ودخلت

لقيت

بواقي من دمها

………………………..

لو كان القمر طفلًا، لانهلتُ عليه ضربًا

حتى يرحل من كبد السماء، ويسقط الظلام

على قريتنا. شارع شارع. ملعب ملعب.

لأفعل ما أشاء. دون رقابة. دون عيون تترصدني

وتقبض على جسدي الصغير في أي وقت كان

حتى لو كنت في أعماق ملعب السوق

وتحت قدمي كرة القدم المكوَّنة من الشراب والإسفنج..

فأنا أصغرهم جميعًا. وبرغم صغر سني

نصبوني كابتن الفريق ورئيس العصابة.

فمنه فريق، ومنه عصابة.

والحق أقول: هو فريق يتكون من سعدني كَسح،

وعبد الفتاح فونيا، وسعيد السفاح.

وبعد نهاية الماتش يتحول إلى عصابة

أو يعود لأصلِهِ، لأن كل شوارع قريتنا

تقسَّمت إلى عصابات. وكانت عصابتي

هي أشهر عصابة.

وكانت القنابل التي أصنعها من التراب تعمي أعين العدو.

وإذا كانت المعركة مع أطفال من خارج قريتنا

فأبدل التراب بالرمل.

والقمر هو كشاف لكل العيون…

وها أنا ألعب أخطر وأهم ماتش في حياتي

بين فريقي، فريق نادر، وفريق زاوية الناعورة….

وها هو شقيقي الأكبر فتحي، صائد الأسماك،

يختبئ في خبث وراء الملعب

ويرسم خطته للأطفال الأشداء

بكيفية الإمساك بجسدي الصغير…

وكل هذا من وراء وجه القمر

الذي يطلق أضوائه داخل الملعب فقط.

فكرت أن أنتقم من القمر مرات ومرات،

وفي كل مرة يحدث لي مصيبة…

وهو يضحك علي في كبد السماء..

وأخر مرة حين وضعت قدمًا وراء قدم،

وقبضت كف يدي اليمنى على قطعة من الحجر،

وأغمضت عينًا وفتحت الأخرى

وأنا أصوب الحجر على عين القمر.

ولكن قطعة الحجر ضلت الطريق،

وكأن الحجر له قلب وعقل! واتفق مع القمر ضدي.

فتركت وجه القمر، ولبست في وجه عمدة القرية…

الذي يعتلي ظهر حمارته…

“آه آه يا ابن ال— آه آه هاتووووووووه…”

قالها العمدة وهو يضع كف يده على عينه

لتخفف من شدة الألم…

طارت أقدام الخفراء وراء أقدامي…

وأقدامي كانت أسرع من كل أقدامهم.

أخذت نفسًا عميقًا وهربت

وراء الجدران. هربت من عيونهم

ولم أستقر إلا أمام باب الدار، بجوار والدي.

الذي يجلس جوار شيخ القرية، الشيخ عبد الجواد

الذي ينظر إلي بتعجب وحيرة ويوجه كلامه لوالدي.

“ابنك لازم له هداية يا معلم.”

قال والدي: “الهداية مش حاتنفع معاه.”

قال الشيخ: “القرآن يهدي من يشاء…”

قال والدي: “لو الهداية ما جاتش من عند ربنا

مش جاية.” ودون أن يفكر

خطف جسدي وقذف به على ظهر الحمار…

متجهين إلى كتاب الشيخ عبد السلام الكفيف،

الذي وُلد كفيفًا، ولكن، كأنه يرى كل شيء بأذنه.

ونحن في الطريق جاء الذي أخاف منه،

وهو أول شكوى من أم ربيع

ويدها اليمنى ملفوفة داخل لفافة من الشاش الأبيض.

وكل حين وحين وهي تشكو تنفخ في الشاش

بخبث لتطفئ النار، وهي تنظر لوالدي…

هي بالطبع تحب ابنها ربيع أكثر مني، وحين تشاجر معي

قيدت ذراعي وقدماي، وهي تقول له: “اضرب، كمان، كمان، كمان اضرب جامد.”

وربيع يشيع لي الضربات…

وفي اليوم الثاني لمحتها متجهة إلى السوق، وعلى الفور

أحضرت سيخ حديد ووضعته داخل جوف النار

حتى اكتسب لونها…

وطرت إليها وهي قادمة… وأنا أقول:

“أم ربيع، سيخ ابنك ربيع نَساه امبارح في دارنا.”

وقبل أن تدعو لي بالخير والبركات

وتترجى الله أن يطيل من عمري،

قبضت على طرف السيخ.

أطلقت أول صرخة إلى السماء…

ووراءها سيل من الصرخات.

وكف يدها اليمنى يخرج عامود من الدخان.

يحمل جلدًا آدمِيًّا يشيط سقطت على الأرض

وهي رافعة قدميها وذراعيها إلى السماء…

وتطلق الصرخات بين أيادي نساء القرية…

حتى فقدت النطق؛ نساء يقولون: “ماتت الست. ماتت.”

وأخريات تقول: “إنه إغماء وليس موت…”

وراحت تقسم لوالدي أنها لم تكذب في حرف…

ودون أن ينطق والدي بحرف…

كانت الخيرزانة أسرع، وهي تشق في قدمي الصغير: “بحبك يا با، بحبك يا با…”

الغريبة! قبل أن نقترب من الشيخ أطلق جملة غريبة المعنى تدل على أنه يرى كل شيء:

“ابنك شقي يا عبد الفتاح.”

اندهش والدي من الشيخ الكفيف: كيف يرانا هكذا…

اقترب منه ووضع عدة نقود في يده.

“اذهب إلى حال سبيلك.”

هناااااااااااك في آخر ركن من الكتاب

جلست بأمر من الشيخ بجوار فرج الله.

وفرج الله يسميها أهل القرية باسم مبروكة.

وراح الأطفال يرددون وراء صوت الشيخ

آيات من القرآن الحكيم…

وبين الآية والآية تدخل لحظة صمت

لتأخذ نفسًا عميقًا ويأتي الصوت ليطيح بها.

نظرت لمبروكة ونظرت لي. ابتسمت، ولم تبتسم.

“عايز إيه يا سعدني؟ بتبص لي كدا ليه؟!

ما تيجي نلعب عريس وعروسة.”

انطلقت هذه الجملة من فمي دون أن أحسب لها أي حساب، وياليتها ما انطلقت.

“آع أااااااااع آععععع آااااااااااع أوووووع عععععععاااااااااا”

هذا ليس نعيـر الجاموسة، أقسم بالله،

إنه صوت مبروكة. ولأن مبروكة اتولدت مع البهائم والحمير

فهي لا تعرف البكاء بل تحترف النعيـر.

وهذا النعيـر يفتح لها كل الأبواب المغلقة.

غطى نعيـر مبروكة على كل الأصوات،

حتى صوت الشيخ…

“ابن السلاموني… عمل لك إيه يا بت؟؟؟؟؟”

قالت البنت: “عايز يعمل فيه قلة أدب….”

وقبل أن ينطق الشيخ بحرف.  ويقول هاتوا الفقر ابن الفقر هاتوووووه

طار أربعة أطفال أشداء كنت ضربتهم

وأشبعتهم ضربًا أمس، وجرجروني من أقدامي الصغيرة متجهين بي ناحية الشيخ…

الشيخ ينهال بانتقام على قدمي بالخيرزانة

حتى سقطت في بحر الإغماء.

ضربوا على وجهي بكوب من الماء.

رجعت إلى الحياة. وواصلت الخيرزانة بدورها

لتشق في قدمي الصغير. وفجأة

قفزت روحي الصغيرة من جسدي

رعبًا من هول الضرب، ووراءها طار الوعي

وراء الوعي كان قد طار النطق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top