ومن الطقوس الشعبية القديمة في الريف المصرى وخاصة في الجنوب هى “الصُلحة ” بضم حرف الصاد، والصُلحة عبارة عن نذر ينذرة صاحب المسألة التى يريد أن يصل فيها الى مراده ويحقق أمنياته ، فإذا مابلغ هدفه المنشود يقوم بعمل ” صُلحة ” ، والصُلحة دائما تكون منذورة لأحد الأولياء في الريف، وأكثر مايقوم بها هم النساء في الجنوب، فتقول المرأة مثلا : ” والله لوطلع شحتّو من الجيش وخَد المعافاة لاعملك صُلحة ياشيخ جبرين ، وتقول امرأة اخرى : والله لو اتخطبت فاطنة السنة دى لاعملك صُلحة ياشيخ غربى .. وتقول أمرأة أخرى : والنبى لأعمل صُلحة للمغاربة لو ولدت هنيّة وربنا نتعها بالسلامة وجابت ولْيد .. أو والنبى لو نجح عطالله في الدبلون وربنا خَد بيده لاعمل صُلحة للشيخ حمدان.. أو ورحمة الميتين لو ولدت البقرة وجابت ضكر لأعمل صلحة لعبيد قُرنة !!
وهكذا نجد أن الًصُلحة في الريف الجنوبي هو طقس شعبي نسائي يقوم به نساء الريف وخصوصا الأمهات منهن كنوع من النذر الذي يتم الوفاء به في حالة بلوغ المراد وتحقيق الأماني . ومثل أي قرية في الريف تتناثر مقامات الأولياء هنا وهناك، وأغلب المقامات نجدها تقع في الجبانة أوسط البيوت لحمايتها من الشرور، ولا احد يعرف من أين قدموا هؤلاء الأولياء والذين في أغلب الأحوال يكونوا ليسوا من أهل القرية أو المدينة ولكنهم أغراب جاءوا مع الفتح الإسلامي، أو من ايام الدولة الفاطمية وأغلبهم من بلاد المغرب العربي ليتخذوا القرى والنجوع مسكناً لمقاماتهم . وقد يكون من بلاد بعيد لكنه علَّم في هذه القرى واتخذ له ضريحاً من خلال أحد رجالات البلدة الأغنياء أو العُمد في المنام وطلب منه أن يبنى له مقاما في قريته وإلا فالويل له .
والصُلحة عبارة عن صحن رز بلبن كبير تتوسّطه كبشة كبيرة أو مُغرفة خشبية ، تأتى به صاحبة الصُلحة وتجلس بجوار مقام الولى وتنادى عيال النجع وتقول : صُلحة ياعيال .. صُلحة ياحريم ، وبمجرد أن يسمعوا نداءها يسرعون على الفور أفواجاً من كل فج عميق، وكأنهم في حالة انتظار لهذه اللحظة التاريخية المبهجة، وهى لحظة العطاء بلا ثمن، لإنها تخص الولى وليس صاحب الصُلحة، ويمد كل طفل صحنه الى المرأة الوقفة التى تغرف بكبشتها رز بلبن وتضع في صحن الطفل أو المرأة الفقيرة الواقفة بصحنها تنتظر العطاء المجانى.
وبعد أن يفرغ الصحن الكبير من أرزه تعود المرأة الى دارها مغبوطة برضا الولي عنها وفرحة الأطفال بالصُلحة .
وقد تكون الصُلحة على مستوى النجع أو القرية أو الدولة أو حتى الوطن بأسره، فكثيرا من أقطار الوطن الآن يقفون بصُلحتهم الضخمة ويقدمونها الى المحتل لينالوا رضا الولي الأكبر المقيم في بيته الأبيض البعيد، حتى أصبح الوطن نفسه عبارة عن صُلحة كبيرة !!
يقدّمون صُلحتهم التى بالطبع ليست رز بلبن، ولكنها صلحه الدم، والنفط ،والأرض ، والمليارات الدولارية ، وكل ذلك يتم مقابل رضا الولى الأكبر، ويسارع الولى لتوزيعها على عياله الجوعى، ثم بعد ذلك يكافئ صاحب الصُلحة برضاه عنه والبقاء الأزلي في رعايته الى أجل غير مسمّى، ولحين تقديم صُلحة أخرى . حمى الله مصر التى دائما ترفض الانحناء وترفض أن تكون صلحه لأحد .
بقلم: عادل صابر
شاعر ومدون مصري
التعليقات