التخطي إلى المحتوى

في مديح المحبة الطريقة البولاقية لإنعاش الحركة الثقافية محمود رمضان الطهطاوي : منبر التحرير
في مديح المحبة
في مديح المحبة
الطريقة البولاقية لإنعاش الحركة الثقافية
محمود رمضان الطهطاوي
لم تفارقه نظارته الطبية منذ نعومة أظفاره وشاء القدر أن يولد ضعيف البصر ويمده الله بقوة البصيرة التي جعلته يتميز عن أترابه، ويتمرد علي أساتذته، ويرفض أن يسلم روحه المتحررة لقيود واهية تآكلت بفعل الزمن، إنه أشرف البولاقي الذي استطاع أن يحرك كل الأحجار الساكنة حوله ليملأ الحياة شعرا ونثرا وفكرا قافزا فوق كل جمود يعرقل روحه الوثابة وفكره المحلق في فضاء الحرية الرحب.
يقسو علي نفسه كثيرا بتلك الجدية الصارمة التي يمارسها في حياته، فأطل علي الحياة متجهما وكأنه في صراع دائم معها، فقليل جدا ونادر أن تري ابتسامته علي وجهه، وإن انفرجت أساريره عن ابتسامة تخرج خجلي لا تستطيع أن تواري لمحة الحزن الراسخة علي وجهه.
«ولد أشرف علي عبد اللطيف خليل البولاقي في مدينة قنا في 19 أغسطس 1968، لأسرة ترجع أصولها إلي قرية برديس بمحافظة سوهاج، وفي سبعينيات القرن العشرين عادت الأسرة إلي موطنها الأول، حيث أنهي تعليمه الأساسي، ثم بدأ اهتمامه بالشعر وحبه للغة العربية في المرحلة الثانوية، فبدأ يكتب الشعر مقلدًا من شُغف بهم من الشعراء كالمتنبي وأبي نواس وشوقي وغيرهم. التحق البولاقي بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب بقنا، لكنه لم يلبث أن تركها بعد شهر واحد وانتقل إلي كلية الحقوق بجامعة أسيوط، غير أنه تركها هي الأخري بعد شهرين والتحق بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، لكن خلافاته الأدبية مع أساتذته لاعتراضه علي الآراء التراثية المحافظة التي اتسمت بها هذه الكلية وقفت في سبيل استكمال دراسته، ليعود إلي مدينة قنا وينخرط في الوسط الأدبي بها، ثم يلتحق بالعمل بقصر ثقافة قنا، حتي تولي منصب مدير قسم الثقافة العامة بالمؤسسة»، حسب ما جاء في موسوعة ويكيبيديا.
هذه المسيرة تؤكد وتشير إلي طبيعة البولاقي التي تسعي دائما إلي التمرد علي الواقع بروحه المتحررة التي تسعي بكل ما تحمله من فكر ووعي للخلاص من هذا المتراكم القابض علي العقل والمكبل للحرية. وإن لم تخني الذاكرة الستينية فعلي ما أذكر لم ألتق بأشرف البولاقي وجها لوجه إلا في مناسبات خمسة، اللقاء الأول في مؤتمر أدبي في قنا، استقبلنا صباحا مرحبا وغاضبا علي الثقافة وسنينها، واللقاء الثاني في مؤتمر أدباء مصر في أسوان، واللقاء الثالث في مؤتمر اتحاد الكتاب فرع الأقصر حيث دعيت باحثا، واللقاء الرابع دعانا إليه الشاعر أوفي الأنور في المنشاة بسوهاج، واللقاء الخامس في أول احتفالية لمسابقة عبدالناصر علام في قنا والتي يشرف عليها مركز عماد قطري للإبداع والتنمية الثقافية والذي أشرف كأمين عام مساعد له.
أما اللقاءات الشبه يومية فعلي صفحته الفيسبوكية فهي تكاد تكون شبه يومية بما يطرحه من رؤي وآراء ومن تجارب ثقافية وإنسانية وما يقدمه لنا من أغلفة كتبه في الفترة الأخيرة بصورة ملفتة للنظر، فهو يكتب في كل شيء بإتقان ووعي وصدق، وإن كنت لا أعلق علي كتاباته، ولكن أتابع واقرأ جيدا.
في كل اللقاءات كان يترك انطباعا خاصا لديَّ، فأنا بطبيعتي ألوذ بالصمت وأراقب كل سكنات وحركات من حولي، وأستمع وأحلل الشخصية من خلال كل ما استطيع قراءته. وللحقيقية تظل شخصية البولاقي ملتبسة لدي الكثيرين منا، أحيانا يكون هادئا جدا، وفي أحايين كثيرة يتحول إلي ثائر وغاضب وناقم، وفي كل الأحوال يقدم مبرراته وأسانيده ويقنع بها معظمنا ويشعرنا بأريحية تجاه مواقفه، وما يطرحه من كتابات علي هذا الفضاء الشاسع الذي يموج ببركان من الكلام، قليله نافع وكثيره غثاء.
أشرف البولاقي المهموم بالحياة من حوله بكل ما فيها من زخم إنساني، أحيانا تجده غاضبا من ذاته، غير راض عن نفسه، وهذا موقف صحي تماما، فما أكثر الذي يصلون إلي حالة الرضا واليقين ويتوهمون تأثير ما والحقيقة أنهم مجرد تماثيل وهياكل من ورق سرعان ما تذروها الرياح ولا أثر لوجود حقيقي لهم علي أرض الواقع . وأعتقد – وبعض الاعتقاد حقيقة- أن صورة أشرف البولاقي المثقف والشاعر والناقد صورة مثالية للمثقف العضوي الذي يثري الحياة الثقافية بفكره وهمومه الإنسانية وما ينشده من مثالية إلي الحد الذي ينتقد فيه أقرب المقربين إليه دون تردد ويعلن ذلك بوضوح وصراحة علي الفيس بوك ، فلم تُرسم علامات التعجب علي وجهي وأنا أطالع منذ سنوات علي صفحته الشخصية وهو ينتقد مجلة «الثقافة الجديدة» ومن ضمنه قصة شريكة حياته ويعاتب المجلة ومصححها اللغوي الذي مرر أحد الأخطاء اللغوية في القصة، ولا أري أي تتناقض عندما همس لي مرة في صندوقي الخاص لخطأ مماثل في منشور لي.
أشرف البولاقي صاحب الفكر الحر والرأي المستنير الذي يجتاحه فرح طفولي عندما يجد كاتب ما يقدم رؤي مختلفة وأدب صادق، وفكر عميق وجاد، فيحتفي به علي صفحات الفضاء ويدعونا للمشاركة في هذه الوجبة الدسمة، هذا لأنه نموذج مثالي للمثقف الواعي المؤمن بأن الحياة الثقافية والأدبية لن تنتعش بتلك اللقاءات المجاملة التي تتلاقي فيها الكلمات ويصدح الشعر دون أي حراك ثقافي، ونقد حقيقي للواقع والذات، ولأنه وتد أصيل من أوتاد الثقافة المصرية والعربية ينتشي عندما يجد الأوتاد حوله تنغرس في قلب المشهد الثقافي لتزيل وتحجب غبار الدخلاء والأدعياء وأنصاف المواهب.
أشرف البولاقي الحريص دائما أن تكون الحياة الثقافية مبنية علي المصداقية بعيدا عن هذا الخواء الزائف ، يواجه بقوة وأحيانا بعنف كل ما هو زائف في الحياة الثقافية والأدبية غير عابئ بأي صداقة وبأي معايير تختلف مع الصدق والمصداقية ، يدقق بحثا عن الحقيقة وهذا ما يسبب له متاعب جمة مع ضعاف النفوس والبصيرة، أتذكر في لقاء جمعنا في قصر ثقافة المنشاة بدعوة من الشاعر أوفي عبدالله الأنور وكان ثالثنا القاص والكاتب دكتور ثروت عكاشة من أسيوط، وكان اللقاء يدور حول تجربتنا في الحياة الثقافية، وألقي كل منا شهادة، وأذكر وقتها أني ذكرت أن أول عمل نشر لي عام 1971 في مجلة «ميكي ماوس»، فسارع البولاقي بالسؤال وكأنه يشكك في المعلومة وهمس: ليه هو أنت ولدت في أي عام، فذكرت: 1962، فقال: ظننت إنك من عمرنا، فابتسمت ولم يزعجني سؤاله وطريقته في التحقق، وعندما عدت من الندوة ظللت أياما أبحث عن المجلة لأصور ما كتبت وأنشره علي الفيس ولكني حتي الآن لم أعثر علي المجلة وسط أكوام الكتب والمجلات في منزلي.
ما يقدمه لنا أشرف البولاقي من نتاج ثقافي، وما يفعله من حراك ثقافي وأدبي، يجعله بحق شيخ طريقة يحتذي به، ونموذج مثالي بكل ما يكتنفه من وضوح وغموض ومتضادات، ولكنه مثال رائع لإنعاش الحركة الثقافية بكل ما يطرحه من رؤي ورؤيا وما تحدثه كتاباته الشعرية والقصصية والنقدية والفكرية من جدال حولها.
أشرف البولاقي الموظف المثقف الذي يعمل في مؤسسة ثقافية، يعد من القلائل الذين يمارسون عملهم بإخلاص رغم كل ما يواجه من عقبات وما أكثرها في المؤسسة الثقافية، ولكن يواجهها كعادته بقوة دون أدني خوف من العواقب التي قد تواجهه كموظف.
أشرف البولاقي مدرسة أدبية ثقافية خرجت من رحم الصعيد الصهد، العامر دائما بالرموز المعطاءة في كافة المجالات ككل ربوع مصر الحبيبة.
تنوعت إصدارات البولاقي ما بين مجموعات شعرية وقصصية ورواية ودراسات نقدية وشعبية وفكرية وأدب ساخر، وحصد العديد من الجوائز، وصدر عن مسيرته الإبداعية والفكرية أكثر من مطبوعة.
قد يهمك أيضا

التعليقات

اترك تعليقاً