اللهجة الصعيدية:
في الصعيد بعامة تقترب الألفاظ العربية المستخدمة في لغته وسياقاتها- كلما اقتربنا من الصحراء الشرقيةـ- من السياق العربي (الفصيح)، أو من اللغة العربية الرسمية. و لهذا يقـال إن لهجة صعيد مصر عربية فصيحة لا ينقصها سوى الإعراب. و أرى أن ارتفاع نسبة المتعلمين في أوساط الجماعة الشعبية المصرية في الصعيد خاصة بعد (ثورة 23 يوليو 1952)، أدخل إلى معجم الجماعة الشعبية المصرية الكثير من المفردات الرسمية التي لم تكن مستعملة من قبل في اللغة الشعبية المصرية. لهذا ستجد الكثير من المفردات العربية الرسمية التي نطلق عليها (الفصيحة) قد صارت من الألفاظ الشعبية المتداولة في الشارع المصري كله. و وخُص الصعيد في القبطية (بالخط المصري ) و (الخط الفيومي) و(خط نقادة أو طيبة). لكن التطور الذي سهل التواصل جعل المنطقة تقترب كثيرا من اللهجة الواحدة (الصعيدي). ولعل من أهم ملامح نطق اللغة الشعبية في صعيد مصر ما يلي :
الملمح الأول: نطق حرف ( القاف) بطريقة النطق اليمنية، القريبة من الكاف.
الملمح الثاني : تفخيم نطق بعض الحروف بشروط معينة. سنعرض لها لاحقا.
الملمح الثالث : تحويل (السين) إلى (صاد) وفق شروط معينة. سنعرض لها لاحقا.
الملمح الرابع : إمالة حروف المد بالفتحة، وفق قواعد وشروط معينة.
الملمح الخامس: إبدال حرف الدال بحرف الجيم في بعض القرى.
الملمح السادس: تعطيش الجيم حتى تقترب في بعض المناطق إلى جيم شامية
( تقترب في نطقها من الشين).
الملمح السابع: استخدام مجموعة من الألفاظ الشعبية استخدامات اصطلاحية متعددة،
مثل: (عَادْ) و ( خَالِصْ ) و( وَاصِلْ ). كما يشار بألفاظ (هِنَيِّهْ) في
الجنوب و(شُعْلِهْ، وشُعْلِهْ) في الوسط للإشارة الى الملكية وإلى هو
مجهول من الأشياء، والإشارة إلى ما لا يحب التصريح باسمه. وقد
يحذف حـــرف اللام من اللفظ عند الإسناد للضمائر فنقول (شعتي
وشغتك). فنقول:
– سَلِّفْنِي الْكِتَابْ شُغْلَكْ.
– أبْقَى هَاتْ الشُّغْلِ اسْمُه إِيِه دِهْ مَعَاكْ.
– بِيِشْرَبْ الشُّغْلِ ده.
كما تستخدم لفظة(عَادْ) تقريبا نفس الاستخدامات البحراوية للفظة (بأه) فنقول: – إِسْمَعْ عَادْ يَا أبُو خَالُهْ.
– مَا هُو شَبْعَانْ عَادْ.
الملمح الثامن : استخدام أكثر من أداة وصيغة للتعبير عن الاستمرار في الماضي
والحاضر، واستخدام أكثر من أداة للتعبير عن زمن المستقبل.
الملمح التاسع : تتميز لهجة أهل الصعيد باحتواء معجمها اللفظي على كم أكبر من
الألفاظ التي كانت تستخدم في اللغة المصرية القديمة ، وطبعا وريثها
القبطي. حتى أنه قبل دخول اللغة العربية إلى مصر كان يطلق على
لغة الصعيد (المصري) أو (اللهجة المصرية) لتمسك أهل الصعيد
بلغتهم المصرية القديمة، وطرق تدوينها، وندرة تأثرهم باليونانية أو
الرومانية وغير ذلك من اللغات الأوربية .
وبالطبع هناك فوارق غير جوهرية في النطق ما بين أسيوط والمنيا وجنوب بني سويف( وسط الصعيد ) . وبين جنوب الصعيد ،أو المنطقة من جنوب سوهاج حتى شمال أسوان، و بين جنوب أسوان وشرقها المتأثر باللغة النوبية ولهجات القبائل السودانية المخالطة، لكنها فوارق كما قلنا غير جوهرية.
و المؤسف أننا – نحن العرب- صرنا في القرن الحادي والعشرين في حالة سيولة لغوية، و لا أقصد بالطبع بالسيولة (المرونة اللغوية) تلك الخاصية المحمودة. بل أعني أننا قد صرنا لا نتعامل مع لغة واحدة، بل صرنا نتعامل مع لغات عدة. صرنا أمام لغتين للحديث: لغة للحديث اليومي نتعامل بها جميعا في البيت والمدرسة الحكومية، والشارع، وعبر وسائط الاتصالات، بل والتي نفكر بها حين نكتب إبداعاتنا باللغة العربية الرسمية، وهي ما أطلق عليه (اللغة الشعبية المصرية) ويطلقون عليه العامية المصرية، ولغة أخرى للحديث الرسمي نستخدمها في الصلاة والطقوس الدينية الإسلامية، والخطب الرسمية، والمناسبات الاجتماعية: كعقد القران، والدعاء، وخطب الجمعة والأعياد، وهي (لغة قريش)، لغة القرآن الكريم العربي. وصرنا نستخدم ثلاث لغات للكتابة والتدوين: لغة للكتابة بالحروف العربية وأخرى للتدوين تستخدم الحروف اللاتينية على مواقع التواصل الاجتماعي، وتستخدم الأرقام للتعبير عن الحروف العربية غير الموجودة أصواتها في اللغة الإنجليزية أو الفرنسية، ولغة ثالثة لكتابة الأبحاث والمذكرات الرسمية والتشريعات والقوانين. وصار تدريس العلوم والآداب في فصول الدراسة يجري باللغة الشعبية المصرية لعدم تمكن المدرسين من اللغة العربية الرسمية، أو بلغة أجنبية، بينما تكتب الدراسات والأبحاث باللغة العربية الرسمية، أو باللغات الأجنبية.!!
وبينما يستهجن البعض الكتابة باللغة الشعبية المصرية العربية، لا يرون ما يشين في استخدام اللغات الأجنبية في الكتابة بل في البحوث والدراسات الأكاديمية. بل إن دعوة الأزهر لتدريس العلوم باللغة العربية الرسمية لقي استهجانا واسعا من الأكاديميين المصريين، وعدوه رجعية من المشايخ ودهوة إلى التخلف. وصرنا أكثر حرصا على إلحاق أطفالنا بالمدارس الأجنبية( الدولية) أو المصرية المتفرنجة (مدارس اللغات)، وصارت لغة أطفالنا خليطا من الانجليزية والفرنسية والألمانية واليابنية. وصار أحفادي يعرفون (الشوزة…والباسكت. ونو.. ويس ) ولا يعرفون دلالة (المركوب والمزبلة ولع وحفه) .
هذه (السيولة اللغوية) من وجهة نظري غاية في الخطورة. فإذا كانت اللغة هي وعاء الفكر، فلنا أن
نتصور مدى التشتت الفكري الذي ينتج عن استعمال أوعية عدة في تفاعلنا اليومي، كل وعاء لغوي منها يحمل الموَرِّثاتِ الثقافية والفكرية للجماعة اللغوية التي أنتجت لغتِه. وإذا كانت اللغة من أهم وسائل صناعة الوعي، فإن التفاهم غير القوي الناتج عن استخدام لغات عدة في تبادل الأفكار، كفيل بوأد فكرة الوعي الجمعي ذاتها، التي هي حَصان الجماعة الشعبية ضد التفكك والذوبان في الآخر.
و تستخدم الجماعة الشعبية المصرية في نطق ألفاظها، أو صوغ كلماتها، حروف الأبجدية العربية نفسها، عدا حرفي [ الثاء والذال لعدم وجودهما في اللغة المصرية القديمة]. لكن الجماعة لا تتعامل مع كل الحروف كما تتعامل اللغة العربية التي نستخدمها في الأغراض الرسمية، فاللغة الشعبية المصرية قد ترقق بعض الحروف، وقد تفخم البعض الأخر، وقد تستبدل البعض بالبعض الآخـــر. وقد تقلب بعضها، كما قد تقوم بدمج بعض الكلمات لتصير لفظًا واحدًا. قد اعتمدتُ في إعداد (موسوعتي للألفاظ الشعبية المصرية)على اللفظ لا الخط، فكما قال ابن جني في (الخصائص):( العبرة في أثبات الحروف بالنطق لا بالخط لوجود اللفظ قبل الخط)
وأضفتُ – عملا برأي الدكتور طه حسين (عميد الأدب العربي) _ ما نحتاج إليه من ألفاظ لم تكن مستعملة في العصور القديمة. وأرى أننا نقلل من قدر لغتنا الشعبية المصرية حين ننعتها باللهجة العامية، فهي لغة عربية مصرية فصيحة. فما نطلق عليه اللغة العربية الفصحى هو لغة قبيلة قريش، وهي واحدة من القبائل العربية، لها تعاملها الخاص مع اللسان العربي، ولها لغتها التي تختلف عن لغات قبائل عربية أخرى وتتفق معها أيضا. ونشير فيما يلي إلى أمثلة للاختلافات في لغات القبائل العربية وللمزيد- لمن أراد- أن يطالع كتاب مصطفى صادق الرافعي ( تاريخ الأدب العربي ) :
لغة قضاعة : تقلب الياء جيما إذا جاءت بعد العين. فتقول: راعج بدلا من راعي.
لغة حمير : تقلب اللام في أداة التعريف ( ال ) ميما (أم)، كقوله عليه الصلاة والسلام [ ليس من امبر امصيام في امسفر] .
لغة هذيل : تجعل العين حاء ، فتقول : عال .. بدلا من حال
لغة تميم : تبدل الهمزة بالعين . فتقول أمان بدلا من عمان وسوعال بدلا من
سؤال و لع بدلا من لأ.
لغة أسد : تقلب الكاف شينا . فتقول : ما عليش شيء بدلا من : ما عليك
شيء ويروى بيت شاعرهم المجنون هكذا :
[فعيناشِ عيناها، وجيدُشِ جيدُها
خَلا عَنَّ عظْمَ الساقِ مِنشِ رَقيقُ]
فعيْناكِ عيْناهَا ، وجيدُكِ جيدُهَا
خَلا أنَّ عظْمَ الساقِ منْكِ رقيقُ
وفيه الكشكشة، وقلب همزة (أن) عينا فقيل ( عن )
لغة طيْ : تقطع آخر اللفظ فتقول : يا أبا الحسَ .. بدلا من يا أبا الحسن . وهذا ما يفعله
أهالي كفر الشيخ والمنيا، وتفخم بعض القبائل العربية بعض الحروف عند النطق
مثل(القاف)، كما يفعل أهل رشيد.
من كتابنا ( المخطوط ( مدخل إلى دراسة قواعد اللغة الشعبية المصرية )
درويش الاسيوطي يشرح “اللهجة الصعيدية”

التعليقات